يُعَلّمنا السيد المسيح: “أحبب قريبك حُبّك لنفسك”. جميعُنا يعرف بأن هناك بُعدًا ومسافة نضعهما بيننا وبين الأشخاص، والمقصود منهما البغض والكراهية وعدم احتمال الآخر، وهي نتيجة اللامبالاة وعدم القدرة على فهم الآخر وتحمّله، وهذه المسافة هي استنفار ومعاملة سيئة للآخر. وفي المقابل نجد اقترابًا مُبَالغًا فيه ومُسيئًا وهذا يُطلق عليه غزوًا واقتحامًا وتعدِّيًا وتطفّلاً وفضولاً ولكن بين هذين القطبين من الاقتحام والغياب، يجب أن نضع مكانهما المشاركة في آلام الآخرين واحتياجاتهم، أي نقترب من الآخر بالرّغم من المسافة التّي نضعها بيننا وبينه، نقترب منه دون أن ننزع عنه قدرة التنفس واستنشاق الهواء والحرية والتلقائية، نقترب منه أي نتعاون معه دون احتلال مكانه، وبمعنى أدق أن نقترب منه دون أن نخنقه.
عندما نحب، يجب أن نتحلّى بفضيلتين ثمينتين وهما الرقّة واللطف. نكتشف في حياتنا اليومية أشخاصاً عقدوا العزم على أن يفعلوا معنا الواجب مهما كلّفهم الثمن، مدفوعين بالارادة الطيبة وكل ما يدور في ذهنهم هو أن يقدّموا لنا خيراً، محاولين بشتّى الطرق والوسائل أن يقدّموا هذا النموذج الطيب، ولكن في النهاية يكتشفون أن كل ما يفعلونه هو لصالحهم وليس خدمةً لنا. يحبوننا بكل ما لديهم من وسائل دون أن يشعروا بأنهم جرّدونا من ذواتنا ونزعوا عنّا شخصيتنا، وكل ما يرغبونه منّا أن نصير كالصورة التي في مُخيّلتهم. لا نستطيع أن نُحصي الكوارث الناتجة عن أشخاص يستخدمون طيبتهم فقط دون أن يُفَعّلوا عقلهم، وبسبب نيتهم الصافية يدمّرون أشياءً كثيرة في حياتنا. إذاً سيكون من الأفضل أن نقوم بخدمة الآخرين مُدركين حدودنا حتى لا نتعدّى على حرية الناس. ونحن نستطيع أن نعيش ونطبّق المحبة بأشياء بسيطة وقليلة ولن تكلّفنا شيئاً: ابتسامة، تكريس دقائق قليلة من وقتنا للآخر، كلمات مُفَعمة بالتسامح، لفتة صداقة، حركة جدعنة تجاه شخص ما ثقيل الدم بالنسبة لنا، مبادرة سخاء مع إنسان لا يستحقها، فُتات من الصبر مع امراةٍ أو رجلٍ مُسِنْ يزعجنا، لفتة رعاية مع شخصٍ رديء الطبع، رسالة شفهية أو مكتوبة لفردٍ مُهمل من الجميع.
لذلك، نحن بحاجة إلى القليل والبسيط لنعبّر به عن محبتنا للآخرين واحترامنا لهم وبذلك نستطيع أن نغيّر طريقة معاملتنا معهم ونظراتنا لهم، وبهذه الطريقة ستتبدّل الحياة من الظُلمة إلى النور، ومن البغض إلى الحب، ومن الاساءة إلى المغفرة. ولكن تنقصنا الشجاعة لنحقق ونطبّق هذا في حياتنا اليومية، فنحن نرغب في حل المشاكل العويصة دون أن نتطرق للأشياء البسيطة التي تجعل حياتنا على الأرض ملكوتاً سماوياً.
من أراد أن يشعر بالسلام والصفاء في قلبه، عليه أن يتمثّل بالسيد المسيح الذي كان يجول يصنع خيراً مع جميع الناس الذين يستحقون ومَنْ هم غير أهل لذلك والذي غفر لصالبيه قائلاً: “يا أبتاه أغفر لهم لأنهم لا يعلمون ماذا يفعلون”. الكاتب العظيم دوستويفسكي Dostoïevsky أحب الذين حكموا عليه بالموت وعطف عليهم وصرّح بالأفكار التي كانت تراوده في ساعة الموت الرهيبة قائلاً: “كنتُ أردد في نفسي: إخواني البشر، مهما فعلتم بي فلن يمنعني شيء عن محبتكم”. لأن محبة الآخر هي شرط لابد منه، شئنا أم أبينا، لننال بركة الله العظيمة. والمحبة الصادقة والأمينة لا تُفتّش مطلقاً عن سيئات القريب، بل تحاول سترها.