أحسنتْ هيئة قصورالثقافة بإعادة طبع (تاريخ مصرمن خلال مخطوطة تاريخ البطاركة لساويرس بن المقفع) إعداد وتحقيق عبدالعزيزجمال الدين عام 2012 وذلك للأسباب الآتية :
أولا: أنّ المخطوطة لم يكن الاطلاع عليها ميسورًا ، إذْ ظلت لعدة سنوات فى دارالكتب وبعض المكتبات العامة ، وبالتالى لم تحظ بالانتشارالجماهيرى .
ثانيًا : أخذتْ المخطوطة قدرًا من الانتشارالنسبى بعد طباعتها فى دارنشرخاصة عام 2005، والانتشارالنسبى سببه أنّ الثمن كان 700جنيه وهومبلغ لاتقدرعليه الغالبية العظمى من شعبنا .
ثالثا : أنّ هيئة قصورالثقافة طرحت المجلدات العشرة بسعر70جنيه قبل الخصم .
رابعًا: الجهد الخارق الذى بذله المحقق فى مراجعة المخطوط . وهذا الجهد يتمثل فى صعوبة القراءة ، إذْ أنّ ساويرس اختارأنْ يكتب باللغة العربية ، وهى ليستْ لغته القومية (اللغة القبطية) مثله مثل كبارالمتعلمين الذين ينحازون للغة المحتل، كما فعل مانيتون عندما كتب تاريخ الأسرات المصرية بلغة المحتل اليونانى ، وكان يجب عليه أنْ يكتب بلغته القومية (الديموتيكية) ولأنّ ساويرس كتب بلغة أجنبية ببنية اللغة القبطية، لذلك اختلفتْ لغته عن كتابة اللغة العربية المُتعارف عليها حاليًا ، وهوالأمرالذى وعاه المحقق وأشارإليه من أنّ ساويرس انحاز(بشكل لاشعورى) لبنية لغته القومية ، مثل حذف الألف من واوالجماعة ، وتفضيل التاء بدل الثاء فيكتب (تبتوعلى) ويقصد أكدوا على. و(قايلين) بدل قائلين.ورفضَ التاء المربوطة فكتب (باليه) بدل بالية. و(دايمه) بدل دائمة. و(أنا البايس الخاطى) بدل البائس الخاطىء. و(متل) بدل مثل . و(تلته) بدل ثلاثة. وأنّ بنيامين (كان أكثرقراته) ويقصد أكثرقراءته إلخ. هذه الصعوبة تغلب عليها المحقق بفضل وعيه بالمظاهراللغوية المشتركة بين اللغة القبطية ولغتنا المصرية المنطوقة حاليًا.
خامسًا : الجهد العلمى الجاد والشاق الذى بذله المحقق فى مقارنة التباين بين المؤرخين. فكتب عن الغزوالفارسى أنّ ((من عادة الكتاب الذين كتبوا عن هذا العصرأنهم دائمًا يذكرون فتح الفرس كأنه حادث واحد يجعلون له تاريخ سنة واحدة. ومعنى هذا أنهم يعجزون عن أنْ يُميّزوا بين غزومصروبين فتح الإسكندرية)) وقد ساعده على ذلك أنه كما ذكراعتمد على (مراجع تاريخية مختلفة الأنواع كثيرة العدد ففيها اليونانى والأرمنىوالسريانى والعربى والمصرى) كما أنه قرأ ماكتبه المستشرقون مثل العالم (جلزر) الذى كتب عنه (إننا وإنْ اختلفنا معه نفعل ذلك وفى نفوسنا كل الاعجاب بمؤلفه النفيس غزيرالعلم دقيق البحث) وعن الخلط بين المؤرخين فى اسم (قيرس) كتب (أنّ النسخة المخطوطة فى المتحف البريطانى لكتاب ساويرس ذكرت قيرس أسقف سفنوش بينما نسخة القاهرة تذكر(نيقوس) وهذا حق أما المقريزى فذكربطوس بدل قيرس) وعن عدد العرب الذين غزوا مصركتب (اختلف الرواة فى عددهم فقال ابن عبدالحكم 4000وقال البلاذرى عشرة آلاف أواثنى عشروقال ياقوت اثنى عشر. وذكرالمقريزى نقلا عن الكندى خبرًا رواه يزيد أنّ جيش عمرو كان خمسة عشروخمسمائة. وقال السيوطى اثنى عشر، وهومارآه المقريزى وقال إنّ كتيبة منها كانت مع الزبيرعددها 4000وهذا يُفسرالسبب الذى جعل مؤرخى العرب يقولون إنّ العدد كان 4000 ومن العجيب أنّ حنا النيقوسى قال أيضًا4000) وكان تعقيبه أنه (لايوجد نوع من الخلط إلاّوقع فيه كتاب العرب، وعلى ذلك فليس عجيبًا أنْ نرى المقريزى يؤرخ للعدد باثنى عشرألف مع وصول المدد مع الزبيرعندما كان العرب فى حصن بابليون) وعن أسماء المدن المصرية ذكرأنّ الطبرى كشف عن خطئه (بوصفه عين شمس بأنها كانت مدينة عظيمة فى بلاد القبط وأنها واقعة فى الغرب ، ومعنى هذا إما أنها فى غرب النيل أوغرب مصرالسفلى ، بينما عين شمس لايمكن أنْ توصف بأحد هذيْن الوصفيْن وعلى ذلك فالظاهرأنّ الوصف السابق هو وصف بعض المواقع التى كانت فيما بين بابليون والإسكندرية. وكانت غلطة الطبرى سببًا فى خلط كثيرمن مؤرخى العرب مثل ابن الأثيروابن خلدون إلخ) وعن حصن بابليون قال مؤرخوالعرب أنّ جند الحصن كانوا من القبط (فى حين أنّ القبط لم يكونوا فى شىء من القتال ولا الجيوش . وكان الاضطهاد فى مدة السنوات العشر شطر مذهبهم وفرّقهم وذهبوا إلى الجبال والكهوف والأديرة. أما أقباط مصرالسفلى وبابليون والإسكندرية فقد اضطروا إلى الدخول فى مذهب الدولة. ومؤرخوالعرب كتبوا بعد الفتح بقرون فكانوا يذكرون جيوش المصريين وقادتهم ولايُميّزون بين القبط والروم ، فكثرت زلاتهم وعظم خلطهم) وعن اسم (وردان) ذكرأنّاسمها لايزال محفوظا فى قرية على الجانب الغربى للنيل وعنها ذكرالمقريزى (وكان عمروحين توّجه إلى الإسكندرية خرّب القرية التى تُعرف اليوم بخربة وردان.. وهى خراب إلى اليوم) وأنّ السيوطى جمع بعض الأخباروهويجهل ترتيبها التاريخى الصحيح. وفى تواريخ غزوالعرب لمصررجع إلى ابن عبد الحكم، البلاذرى، ابن قتيبه، الطبرى، أبوصالح، ياقوت (ويعتبره كاتب عظيم الشأن)، ابن خلدون، المقريزى، أبوالمحاسن، السيوطى، وعندما يقرأ ماكتبه أحد المستشرقين فإنه يقرأ بعين العالم المحايد مثلما فعل مع المستر(بروكس) الذى اختلف معه. ونفس الشىء حدث مع المؤرخ (لين بول) وخلص المحقق إلى نتيجة هى أنه (إذا استبعدنا من وثائق التاريخ القديم كل ماتشوبه الخرافات أوتتخلله الأخطاء ، وإذا نحن أغفلنا تلك الوثائق فلم نعتد بدلالتها ، لم يبق لنا إلاّ القليل فى أى باب من أبواب التاريخ . ونقول غيروجلين أنّ أخباردواوين تراجم البطاركة صادقة فى جملتها فيما تنص عليه من أخبارالتاريخ وقد ثبت ذلك وخلص من كل شك) وذكرأنّ البعض أخطأ عندما توهّم أنّ ماكتبه ساويرس عن تاريخ البطاركة والكنيسة المصرية لايرتبط بتاريخ مصر. وأنّ ساويرس اشترك مع مؤرخى العرب عندما سرد الأساطيروالخوارق والكرامات إلخ .
وعن كتاب ساويرس ذكر أنّ المخطوطات الموجودة الآن لكتاب (سيرالبطاركة) تتوزع مابين محفوظة بالمتحف القبطى وفى مكتبة البطركية. والمكتبة الوطنية فى باريس والمتحف البريطانى ومكتبة الفاتيكان وصورة فوتوغرافية لمخطوطة المكتبة الوطنية بدارالكتب المصرية. ونشرالمستشرق إفتس كتاب ساويرس وتولتْ الجمعية القبطية نشرالأجزاء الباقية بمعاونة أ. يسى عبدالمسيح. ونشرتْ الجمعية القبطية الجزء الأول من المجلد الثانى عام 48إلخ وبينما تنتهى مخطوطة ساويرس عند أواخرالقرن العاشرالميلادى فإنّ أ. عبدالعزيزجمال لم يكتف بدورمحقق المخطوطة ، إنما أجهد نفسه ليؤرخ للفترة التالية من تاريخ مصر، أى منذ القرن الحادى عشرإلى نهاية القرن العشرين ، هذا بخلاف الفصول الأولى من الجزء الأول ، إذْ أسهب فى شرح تاريخ الغزواليونانى ثم الغزوالرومانى ، الأمرالذى جعل نسخة هيئة قصورالثقافة بأجزائها العشرة تزيد عدد صفحاتها على أكثرمن17000صفحة من القطع الكبير.
ولأنّ أ. عبدالعزيزجمال خطط لنفسه أنْ يكون تحقيقه لكتاب ساويرس مجرد فصل من فصول تاريخ مصر، وأنّ هذا التاريخ به الكثيرالمسكوت عنه وبصفة خاصة الفرق بينكبارالمتعلمين المصريين الذين كانوا أول من رحّبوا بالغزاة ووقفوا معهم وتبنوا دينهمولغتهم ، وبين الأميين الذين حافظوا على دينهم القومى ولغتهم القومية. والمثال الأشهرلذلك موقف مانيتون ابن سمنود ، وموقف ساويرس . ولأنّ المتعلمين ليسوا (كتلة) واحدةذكرالمحقق ماحدث فى عهد البطالمة. إذْ ((كانتْ طيبة (الأقصرحاليًا) مصدرذعرلجميع ملوك البطالمة. لأنّ طيبة بوصفها مركزعبادة آمون كانت معقلا للحركات القومية بزعامة الكهنة المصريين ضد الغزاة الأجانب)) وذلك عكس المتعلمين الكبارفى أحداث ثورة البشمورإذْوقف بطرك الأقباط الأنبا يوساب مع الخليفة المأمون فى قمع الثورة ، مرة بالخطب لاقناع الفلاحين بالتخلى عن التمرد وطاعة الحاكم ، ومرة بإرشاد جيش المأمون بقيادة الإفشين على الأحراش التى كان يختبىء بها الثوار، ومنها يُنظمون دفاعاتهم ، فكان هذا الدورمن الأنبا يوساب ومعه القساوسة الأتقياء أهم أسباب القضاء على الثورة التى قتل فيها الآلاف أما الأحياء من النساء والشيوخ والأطفال فتم أسرهم وسوقهم عراة حفاة ليُباعوا فى أسواق بغداد.
ورغم بطش الغزاة فى قمع أى تمرد ضدهم ((فقد بقيتْ بعض البلاد فى شمال مصرالسفلى (الدلتا) ترفع لواء مقاومة الغزاة العرب)) (ج2ص92) وعن غزوالإسكندرية ((فقد أخذ العرب المدينة عنوة ودخلوها يقتلون ويغنمون ويحرقون))(ج2ص110) وعندما استمرالقتل حتى كاد يفنى كل حى ، أمرعمروبوقف القتال رافعًا سيفه. وفى هذا المكان (كمتوالية تراجيدية) أمرببناء مسجد أطلق عليه (مسجد الرحمة) وما بقى من النساء استولى العرب عليهن كسبايا وفق منظومة (ملك اليمين) وعن الفتح / الغزوالثانى للإسكندرية الذى وقع بعد 23مارس 646فإنّ عمروبن العاص أحرق ودمّرجانبًا كبيرًا من أسوارها (ج2ص119) التزم المحقق بالمنهج العلمى فلم يُفرّق بين غزاة وغزاة وهوما أثبته عندما اضطهد القساوسة الأتقياء المصريين المُتمسكين بالديانة المصرية التى وصموها بوصف غيرعلمى (وثنية) كما هدموا المعابد وحوّلوا بعضها إلى كنائس (ج2ص279، 449) وهوما فعله العرب عندما حوّلوا الكنائس إلى مساجد ، فى متوالية تراجيدية للتعصب الدينى .
وعن الدولة الطولونية كتب أنها ((تـُـمثل الانتقال من من عصرالتبعية إلى عصرالاستقلال )) إذْ أنّ أحمد بن طولون إهتم بالزراعة والعناية بالفلاح المصرى وبالأرض لذا شهدتْ مصرنهضة زراعية. وذكرالمقريزى أنّ الأرض المزروعة فى عهد ابن طولون بلغتْ مليون فدان . وإهتم باستخراج الزيت من السمسم. وفى مجال الحرف ازدرهتْ المنتجات المصنوعة من الخشب . وكذا المنتجات الخزفية. وأسّس دارًا لسك العملة. وكتب أ. عبدالعزيزجمال ((وفى اعتقادنا أنّ المحافظة على البحرية المصرية أوإنشاء أسطول مصرى فى زمن الطولونيين ، كان استمرارًا لتاريخ مصرالحربى المجيد)) كما أنّ أحمد ابن طولون رفض أنْ يذهب مال الجباية (الجزية والخراج) إلى مقرالخلافة كما كان الأمرسائدّا من قبله. وأصبح هوالمشرف على ميزانية البلاد . كما أشارالمحقق إلى أنّ كثيرين من المؤرخين أجمعوا على أنّ ابن طولون ألغى الضرائب الظالمة. وأنّ عصره امتازبالرخاء وزيادة الانتاج ( ج 5 – أكثرمن صفحة)
وفى العصرالفاطمى لم يلجأ الخليفتان المعزلدين الله وابنه العزيزبالله إلى فرض قيود على أهل الذمة (مسيحيين ويهود) رغم العهد العمرى أوالشروط العمرية التى تـُحدّد نوع اللبس ودخول الحمامات وطريقة ركوب الدواب إلخ بينما الحاكم بأمرالله طبّق الشروط العمرية وبالغ فيها فأصدرأمرًا ألزم بموجبه اليهود والنصارى بربط الزنانيربأوساطهم ووضع العمائم السود على رؤوسهم ، إذْ كان السواد شعارالعباسيين وهم العصاة فى نظرالفاطميين وأمربأنْ يحمل النصارى الصلبان فى أعناقهم ، وأنْ يحمل اليهود فى أعناقهم قرامى الخشب والجلاجل ، على أنْ يكون وزنها مساويًا لوزن الصلبان . وذكرابن إياس أنّ الحاكم بأمرالله ألزم النصارى أنْ تكون الصلبان من الحديد وبطول ذراع . وذكرالأنبا ميخائيل أنّ وزن الصليب كان خمسة أرطال ومختوم بخاتم رصاص عليه اسم الخليفة. وكان يُعلق فى رقابهم بحبل من الليف . وإذا نسى المسيحى صليبه ومشى فى الأسواق بلا صليب يُضرب ويتعرّض للإهانة والسخرية. وفرض الحاكم بأمرالله أنْ يتميّزأهل الذمة عند دخولهم الحمامات بعلامات تُميّزهم عن المسلمين . كما منع أهل الذمة من ركوب الخيل وأنْ يركبوا البغال والحميربسروج غيرمحلاة بالذهب أوالفضة. ومنع ركوب أهل الذمة مع المكارى المسلم . ومنع الملاحين وأصحاب السفن المسلمين من أنْ يحملوا على سفنهم أحدًا من أهل الذمة. وإزاء صرامة هذه القيود اضطرأهل الذمة (وفق التعبيرالعربى / الإسلامى) إلى أنْ يتشبّهوا بالمسلمين وتظاهروا بالاسلام ، فما كان من الحاكم بأمرالله إلاّ أنْ أصدرأمرًا شديد القسوة وهوأنّ على اليهود والنصارى الاختياربين واحد من ثلاثة : الالتزام بما فـُرض عليهم من قيود أوالدخول فى الاسلام أوالهجرة (أى ترك مصر) ومن مظاهرالاضطهاد أيضًا هدم الكنائس أوبناء مساجد مكانها ومصادرة أملاك الكنيسة وأوقافها وأموالها .
وذكرالمحقق أنّ معظم المصادرالإسلامية تعرّضتْ لأخطرحدث ألاوهوهدم كنيسة القيامة ونهب محتوياتها ومحو أثرها . وكان هذا الحدث أحد الأسباب التى أشعلتْ الحروب الصليبية ، وما تعرّضتْ له شعوب الشام ومصرمن دماربسبب هذه الحروب . كما أتبع الحاكم بأمرالله قراره بهدم كنيسة القيامة بقرارآخريقضى بهدم كنائس القنطرة فى (المقس) وكنائس حارة الروم ونهب جميع مافيها. ومنع استخدام الناقوس وعدم ظهورصليب على أية كنيسة. فتم نزع الصلبان من الكنائس ومُحيتْ معالمها . وذكرالمقريزىفى (إتعاظ الحنفا – ج2 ص94) أنّ الحاكم بأمرالله أمرفى ربيع 403 هـ بهدم جميع الكنائس فى الديار المصرية. وأنشىء مكان بعضها عدد من المساجد . وتم حرق الكتب التى كانت موجودة بالكنائس. أما الأمرالأشد قسوة فهوإجبارالمسيحيين على أنْ يدفعوا أجورالعمال الذين هدموا كنائسهم، لمضاعفة آلامهم وللمزيد من النكاية بهم (ج6 أكثرمن صفحة)
وعن كارثة الغزوالعثمانى (1517) تعرّض المُحقق بالتفصيل لشخصية طومان باى الذى تصدى لهذا الغزوكأنه أحد أبناء مصر، خاصة وأنّ جدودنا المصريين هم الذين اختاروه سلطانـًا بعد مقتل قانصوه الغورى فى حربه مع العثمانيين . ولأنّ الكتابة المحكمة المحايدة والتأريخ الجاد والموضوعى لايعرف المجاملة ، لذا لزم التنويه لما أشارإليه المُحقق من أنّطومان باى كان مثل سابقيه من سلاطين الجراكسة. فلم يحاول إشراك شعبنا المصرى فى المسئولية السياسية.
كانت موقعة مرج دابق قد قرّرتْ مصيرالشام قبل مصر. وكان ابن عثمان قد أخذها –كما يقول المؤرخون لقمة سائغة ، إذْ سلمتْ له أغلب مدنها . وكان طموح سليم هوالاستيلاء على الشام ومصر. وظهرذلك فى رسالته إلى طومان باى وفحواها أنّ ((الله قد أوحى إليه بأنْ يُملكه البلاد شرقـًا وغربًا كما ملكها الإسكندر. ويعتبرنفسه- بعد انتصاره على الغورى – سلطانـًا فى أملاكه. ثم دعا طومان باى أنْ يكون نائبًا له (من غزة إلى مصر) وأنْ يكون له فيها الخطبة وسك العملة. أما هوفيكون له من الشام إلى الفرات)) ورغم أنّ خايربك وقف مع الغزوالعثمانى وساند سليم فإنّ سليم نفسه أطلق عليه ((خاين بك)) رغم أنّ سليم عندما دخل حلب أظهرمنتهى القسوة فقتل كل من لجأ إليها من المماليك . وأنّ أغلب من قتلهم كانوا من المصريين وفق ما ذكره ابن إياس . واستعمل سليم الجواسيس وهوالأمرالذى إنتبه إليه طومان باى ، فتعامل معهم بكل حزم وقبض عليهم وأمربأنْ لايأوى أحد عنده غريبًا ((ولولاهمة طومان باى لكانت القاهرة قد خربتْ عن آخرها)) وبمجرد دخول العثمانيين القاهرة شرعوا فى تعقب الجراكسة الذين تخفوا فى زى الفلاحين أوفى ملابس حرافيش القاهرة . كذلك عمد العثمانيون إلى قتل المصريين بوحشية لا نظيرلها . وعندما غزوا مصركانوا يحملون الرايات المكتوب عليها بعض الآيات القرآنية مثل ((إنا فتحنا لك فتحًا مبينـًا)) ، ((فتح من الله ونصرقريب)) وحرق العثمانيون بيوت المصريين ودنـّسوا المساجد . وذكرابن إياس أنّ العثمانيين أثاروا فزع المصريين عند دخولهم القاهرة . وفعلوا مثلما فعل هولاكوفى بغداد ، فكتب الشعراء شعرًا تعبيرًا عما حدث ، فقال أحدهم ((نبكى على مصر وسكانها * قد خربتْ أركانها العامرة * وأصبحت بالذل مقهورة * من بعد ما كانت هى القاهرة))
حارب طومان باى العثمانيين على قدرامكانياته ، خاصة وأنّ كثيرين من المماليك تخلوا عنه عندما رأوا قوة العثمانيين الحربية. بينما مأساة طومان باى الحقيقة تتمثل فى الخدعة الدنيئة التى تعرّض لها من شيخ عربى اسمه (حسن مرعى) فبعد أنْ هرب طومان باى استضافه حسن مرعى ووعده بحمايته ، ثم إذا به يُسلمه للعثمانيين ، وهكذا تنتهى مأساته بإعدامه شنقــًا . وقد نسج شعبنا حوله الأساطير، فقالوا إنّ حبل المشنقة تمزّق مرتيْن قبل أنْ يموت فى المرة الثالثة (ج 8 – أكثرمن صفحة)
طبّق العثمانيون قواعد الجزية على شعبنا المصرى وفقـًا للتفسيرالحنفى ، حيث ورد بشأن الجزية أنه إذا وُضعتْ بتراض أوصلح فلا تتغير. أما إذا فــُتحتْ عنوة وأقرأهلها عليها توضع على الظاهرالغنى ثمانية وأربعون درهمًا ، وعلى المتوسط نصفها . وعلى الفقيرالقادرعلى الكسب ربعها . وتوضع على كتابى ومجوسى ووثنى وعجمى (= غيرعربى) ولاعلى المرتد ، فلا يُقبل منهما إلاّ الإسلام أوالسيف ، وتـُسترق أنثاهما وأطفالهما . والخلاصة أنّ الخلافة العثمانية طبّقتْ الجزية على شعبنا على أنّ (الفتح) كان عنوة (ج 9 – أكثرمن صفحة)
وعن الغزوالفرنسى لمصر، أشارالمحقق إلى ما كتبه المؤرخون عن نابليون بونابرت ، إذْ أنه قبل حضوره إلى مصرإهتم بدراسة القرآن وسيرة النبى محمد وتاريخ العرب . وأنه بمجرد وصول الأسطول الفرنسى للشواطىء المصرية ، أصدربونابرت وهوعلى ظهربارجة القيادة (أوريان) منشورًا إلى جنوده فى 22يونيو1798يُطالبهم فيه باحترام شعائرالدين الإسلامى واحترام رجال الدين وأماكن العبادة. وفى 2يوليوكتب منشورًا آخر، وزّعه على جنوده تضمّن أنّ سبب مجيئه إلى مصرهوتخليص أهلها من طغيان المماليك . وحرص نابليون على إظهارإسلام جنوده ، فبدأ المنشوربالشهادتيْن ، وأكد اعتناقه الدين الإسلامى . وذكرأنه ((أكثرمن المماليك يعبد الله سبحانه وتعالى ويحترم نبيه والقرآن الكريم)) ورأى أنْ يُظهرهذا الاحترام بصورة عملية ، فحضرالاحتفال بمولد النبى وبالموالد الأخرى وحضور رؤية هلال شهررمضان . وشارك كبار القادة الفرنسيين فى أعياد المصريين المسلمين . وذهبوا للإفطاروالسحورمع بعض المشايخ .
وفى 25يوليو1798أسس الفرنسيون ديوان القاهرة. وتأسيس دواوين الأقاليم فى 27يوليو. وفى 21أكتوبرفوجىء الفرنسيون بأحداث الأزهر(والعوام) من المصريين ، وهى الأحداث المعروفة بثورة القاهرة الأولى ، والتى تـُعتبرأهم دليل على أنّ شعبنا لم ينخدع بإدعاءات الغزاة حول شعاراتهم الإسلامية ، وآية ذلك تلك المقاومة العنيفة التى انطلقتْ ضد جنوده أينما ساروا فى الدلتا والصعيد . خلال شهورأغسطس وسبتمبروأكتوبر1798ثم الانتفاضات التى قام بها القاهريون فى أواخرأكتوبرمن نفس العام . وقد أرجع الجبرتى هذه التمردات ضد جيش المحتل الفرنسى بسبب الضرائب والغرامات المفروضة التى أغضبتْ الفقراء من الشعب ، بينما ذكر محقق الكتاب أ. عبدالعزيزجمال أنّ ((الضرائب التى إبتدعها الفرنسيون لم تلحق ضررًا كبيرًا إلاّ بالموسرين من القاهريين الذين حرّكوا العوام للتمرد)) أى أنّ التمرد شمل الفقراء والأغنياء . مع مراعاة أنّ الذين قاموا بالدورالأكبرفى هذه الثورة هم عامة القاهريين الذين أشارإليهم الجبرتى تارة ب (الحرافيش) وتارة أخرى ب (الزعر) وتارة ثالثة ب (الغوغاء) وهم من الحرفيين ومعهم صغارالأزهريين . انتقم الفرنسيون من سكان القاهرة وضواحيها . وحرقوا بيوت عرب قليوب وخيامهم وقتلوا الرجال والنساء والأطفال (ج 9 – أكثرمن صفحة) وفى هذا الجزء الكثيرمن التفاصيل عن البعثة العلمية التى جاءت مع الغزوالفرنسى ، ولكن فى النهاية فإنّ المحتل والغازى لابد أنْ يلجأ إلى البطش عندما يرى المقاومة الشعبية ، وهوالأمرالذى أكده تاريخ الغزاة عبر العصور.
وعن محمد على كتب المُحقق أنه أمربمسح الأراضى المصرية وقسّم مصرإلى 7مديريات ، وأعاد تنظيم الحكومة المركزية فى القاهرة. وأصدراللائحة الإدارية الشهيرة بالسياستنامة لتنظيم شئون الحكومة الداخلية وتوزيع الاختصاصات بين دواوينها ووزاراتها. وأصرّعلى تدعيم قوة مصر، وذلك بالنهوض بالبلاد وتنمية مواردها ، وبناء جيش حديث ، يفتتح به امبراطورية كبيرة فى آسيا وإفريقيا . وفى عهده تم تحويل أراضى رى الحياض إلى الرى الدائم لزراعة الأرض أكثرمن مرة فى السنة لزيادة انتاجها. هذا بخلاف البعثات التى أرسلها إلى أوروبا . وإنشاء العديد من المدارس . كما أنه سعى لاستقلال مصرعن الدولة العثمانية ، لذلك وصفه المؤرخون المحايدون بأنه بانى مصرالحديثة. ولهذين السببين (استقلال مصر، وبناء دولة عصرية) تآمرتْ عليه الدول الأوروبية ، خاصة إنجلترا وفرنسا . وأنّ الاستقلال والتحديث سيستمران ، خاصة فى عهد حفيده الخديوإسماعيل ، ولذلك تمتْ تصفيته بعزله وتولية ابنه توفيق المتواطىء مع إنجلترا (ج 9 – أكثرمن صفحة)
شاهد عصرإسماعيل إنشاء الشركات الزراعية والتجارية. وفى سبيل تنفيذ مشروعات الاصلاح المختلفة وبناء دولة على النمط الأوروبى ، اقترض إسماعيل من البنوك الأوروبية بفوائد عالية جدًا ، كانت من بين الأسباب الرئيسية لارتباك المالية المصرية. وإذا كانت الزراعة هى عماد ثروة أى وطن ، لذلك وجّهتْ حكومات إسماعيل عنايتها بالزراعة. فاهتمتْ بزيادة مساحة الأراضى المُنزرعة وتحسينها ، سواء بتوفيرمياه الرى أوباصلاح الأراضى البور. وفى عهده تم اصلاح 112ترعة. كما إهتم بزراعة قصب السكروصناعته. وعندما انخفضتْ أسعار القطن أنشأ إسماعيل المصانع العديدة فى الفيوم وبنى سويف وأسيوط وقنا ، وجلب إليها الآلات الحديثة من أوروبا . وكان إنشاء هذه المصانع جزءًا من النشاط الصناعى الذى عنى به إسماعيل. وفى عهده تم إنشاء 430جسرًا منها كوبرى قصرالنيل وجسركفرالزيات وكذلك شبكة واسعة من الخطوط الحديدية والأسلاك البرقية فى الوجهيْن البحرى والقبلى وشمال السودان . وتم إنشاء مدارس للحقوق والألسن والزراعة والهندسة والمحاسبة والمساحة ومدرسة اللسان المصرى القديم (الآثارواللغات القديمة) ومدرسة دارالعلم لاعداد المعلمين ومدرسة للصم والعميان ومدرسة للحربية. وكان إلغاء الرق (= العبودية) من أهم إنجازات عصرإسماعيل (ج 10- أكثرمن صفحة) وفى هذا الجزء الكثيرمن التفاصيل المهمة عن إضرابات العمال وبداية إنشاء نقابات مستقلة تـُدافع عن حقوق العمال وذلك منذ عام 1899.
هذا الجهد الخارق الذى بذله أ. عبدالعزيزجمال فى رصد تاريخ مصرمنذ غزوالإسكندرعام 332ق.م إلى نهاية القرن العشرين الميلادى ، كان مصيره الرجم من المُتعصبين عرقيًا ودينيًا ، المُتمسكين بإقامة معتقلات للمعرفة، المُمسكين بسلاح (الوصاية) الرافضين لأنْ يكون عقل الإنسان هوالحكم فيما يقرأ ، أكتب هذا بعد أنْ قرأتُ الهجوم الذى وجّهه الأصوليون والعروبيون ضد هيئة قصورالثقافة وضد المحقق. وإذا كنتُ لم أندهش من هذا الهجوم ، فإننى أحيى وأشد على يد كل من ساهم فى إخراج هذا العمل لشعبنا ، مع رجاء طبع موسوعة تاريخ الجبرتى التى حققها – أيضًا- أ. عبدالعزيزجمال. وأعتقد أنّ نشرهذا التراث هوالمدخل الطبيعى لبدء مسيرة (النضال الفكرى) لمواجهة الحالمين بعودة عصرالكهوف .