سطرت ريشة الوحي المقدس في (مت13: 1، 2، 31– 35) ” في ذلكَ اليومِ خرجَ يَسوعُ مِنَ البَيتِ وجَلَسَ عِندَ البحرِ، 2فاجتَمَعَ إليهِ جُموعٌ كثيرَةٌ، قَدَّمَ لهُمْ مَثَلاً آخَرَ قائلاً:”يُشبِهُ ملكوتُ السماواتِ حَبَّةَ خَردَلٍ أخَذَها إنسانٌ وزَرَعَها في حَقلِهِ، وهي أصغَرُ جميعِ البُزورِ. ولكن مَتَى نَمَتْ فهي أكبَرُ البُقولِ، وتصيرُ شَجَرَةً، حتَّى إنَّ طُيورَ السماءِ تأتي وتتَآوَى في أغصانِها”.
قالَ لهُمْ مَثَلاً آخَرَ:”يُشبِهُ ملكوتُ السماواتِ خَميرَةً أخَذَتها امرأةٌ وخَبّأتها في ثَلاثَةِ أكيالِ دَقيقٍ حتَّى اختَمَرَ الجميعُ”.
من هذين المثلين نتعلم الكثير من الدروس الثمينة والمواعظ الهامة
أولاً: طوبى لمَنْ يعمل في صمت وهدوء
نتعلم من هذين المثلين كيف نعمل في ملكوت الله بفكره وأسلوبه ولمجده في صمت وهدوء أما غير ذلك يصبح الإنسان نحاساً يطن أو صنجاً يرن.
فحبة الخردل متى أُلقيت في الأرض تضرب بجذورها في التربة وتنبت وتنمو وتثمر في صمت،والخميرة متى وُضعت في العجين تتفاعل معه دون ضجيج أو صخب حتى تخمر العجين كله،بالضبط مثل صاحب الملكوت، المكتوب عنه أنه “لا يَصيحُ، ولا يَسمَعُ أحَدٌ في الشَّوارِعِ صوتهُ“(مت12: 19). فكم من مرة طلب الرب يسوع من الذين صنع معهم معجزات أن لا يقولوا لأحد، وينصرف بهدوء“ راجع (مر1: 44، مر3: 12، مر5: 43، مر7: 36).
وهكذا يجب على المؤمن وهو يعمل في ملكوت الله أن يعمل كحبة الخردل، وكالخميرة في صمت وهدوء، يعمل لا لكي تُسلط عليه الأضواء، ولا لكي يأخذ مديحاً من الناس، وإنما يعمل ليمتد ملكوت الله، لا ليمتد ويتسع ملكوته الشخصي.
ولعل هذا يتفق ويتسق مع ما نادى به الرب يسوع في الموعظة على الجبل عندما قال:“أنتُمْ مِلحُ الأرضِ… أنتُمْ نورُ العالَمِ“(مت5: 13، 14). فالنور أيضاً يضيء دون صوت، والملح يتفاعل مع الطعام ويعطي مذاقه، أو يحفظه من الفساد دون ضجيج، وهذا الفكر أيضاً نراه بوضوح في تعاليمه عن الصدقة والصلاة والصوم عندما قال: أما أنتَ فمَتَى صَنَعتَ صَدَقَةً فلا تُعَرِّفْ شِمالكَ ما تفعَلُ يَمينُكَ“.
“ومَتَى صَلَّيتَ فادخُلْ إلَى مِخدَعِكَ وأغلِقْ بابَكَ، وصَلِّ إلَى أبيكَ الذي في الخَفاءِ … ومتى صمت فإدهن رأسك وأغسل وجهك لكي لا تظهر للناس صائماً … وفي كل هذه الأمور تكون النتيجة ” أبوك الذي يرى في الخفاء يجازيك علانية” (متى ص6).
ياه! ما أجمل الصورة التي التقطتها عدسة الوحي المقدس إلى حَنَّةَ أم صموئيل عندما كانت في الهيكل تصلي مكتوب:” كانَتْ تتكلَّمُ في قَلبِها…وصوتُها لم يُسمَعْ“(1صم1: 13). فحقق الرب شوق قلبها، واستجاب لصلاتها
والمرأة الخاطئة التي جاءت للرب يسوع في منزل سمعان الفريسي، لم يسمع أحد صوتها بل كانت دموعها أبلغ من كل كلام، فلقد كانت دموعها تنسكب على قدمي السيد، وبشعرها تمسحهما وتقبل قدميه وتدهنهما بالطيب … “فقا
نعم! على المؤمن أن يعمل في ملكوت الله بكل وداعه وتواضع وإنكار للنفس، وشعاره في كل هذا “0يَنبَغي أنَّ ذلكَ يَزيدُ وأنِّي أنا أنقُصُ.“(يو3: 30).
ثانياَ: لا يجب أن نستصغر أي موهبة في حياتنا
يبدأ ملكوت الله صغيراً مثل حبة خردل، أو مثل الخميرة، فحبة الخردل متناهية الصغر، ولكن متى نمت صارت شجرة كبيرة ضخمة تتآوى فيها الطيور.
والخميرة صغيرة بالمقارنة بحجم الدقيق التي ستوضع فيه، ومع ذلك عندما تتفاعل الخميرة مع العجين تخمر العجين كله، ولعل الرب أراد أن يعلمنا كمؤمنين أن لا نستصغر مواهبنا ووزناتنا التي أعطاها لنا حتى وإن كنا نملك وزنة واحدة، يجب علينا أن نستثمرها ولا نستصغرها.
كيف لا ؟! وعلى صفحات كلمة الله رسمت ريشة الوحي المقدس أشياء كثيرة صغيرة لكنها ذات نتائج كبيرة مبهرة.
+ فما أروع إختبار الأرملة التي من نساء بني الأنبياء التي لم تكن تمتلك سوى دهنة زيت، ومنها فاض وتدفق عطاء الرب بوفرة سخاء، فسددت الدين الذي عليها، وعاشت بعد ذلك حياة كريمة(1مل4).
+ وهل ننسى أن مِلءُ كفٍّ مِنَ الدَّقيقِ، وقَليلٌ مِنَ الزَّيتِ عند أرملة صرفة صيدا مع بركة الرب عالت النبي إيليا والأرملة وإبنها، وكوّارَ الدَّقيقِ لا يَفرُغُ، وكوزَ الزَّيتِ لا يَنقُصُ“(1مل17: 10- 16)؟!.
+ ياه! كم كان رائعاً استخدام الرب لعصا موسى، وإبرة طابيثا، وكم كان تقديره وتشجيعه للمرأة التي قدمت الفلسين والولد الصغير الذي قدم الخمسة أرغفة والسمكتين.
ولعلنا نتسائل ما هي الامكانات التي كانت بيد يشوع لتسقط أسوار أريحا في مكانها أمامه (يش ص6)؟!.
+ وكيف انتصر جدعون على المديانيين بثلاث مئة رجل (قض ص7)؟! .
+ ومَنْ هو شمشون الذي ضرب ألف شخص من أعدائه بفك حمار (قض15: 15)؟!.
+ وداود الصبي الصغير بمقلاعه البسيط الذي أحرز انتصاراًَ كبيراً على جليات الجبار(1صم17).
+ وهل ننسى الفتاة الصغيرة المسبية التي كانت سبباً في شفاء نعمان السرياني.(2مل5: 2، 14)؟!.
هذا ولقد استخدم الله يوسف وهو مظلوم ومهان، وموسى ثقيل اللسان، وإيليا بيأسه، وإرميا بأحزانه ودموعه، ويونان بتعصبه وتمرده، ونعمى وترملها، ويوحنا المعمدان وتحدياته العنيفة، وبطرس بإندفاعه وتهوره، ومرثا بقلقها وحساسيتها المفرطة، والسامرية بزيجاتها المتعددة الفاشلة، وزكا بسلبياته، وتوما الشكاك، وبولس بشوكته، وتيموثاوس بحداثته، والتلاميذ بإمكانياتهم المحدودة، كل هذه النماذج استخدمها الله أروع استخدام بالرغم ما فيها من ضعفات وسلبيات، ومازال الله قادر أن يستخدم أي إنسان اليوم مهما كانت إمكاناته محدودة، فالحقيقة إن كان الله في غنى نعمته إرتضى أن يستخدمنا نحن الأواني الخزفية فهو يظهر فينا قوتهوفضل القوة لله لا منا.
هذا وعندما يستخدمنا الرب نثق أن “كأس ماءٍ بارِدٍ فقط لا يُضيعُ أجرَهُ”(مت10: 42).
ثالثاً: الموت طريق الحياة
كان لابد لحبة الخردل أن تموت أولاً قبل أن تضرب بجذورها في الأرض، وترفع فروعها إلى فوق، وتصبح شجرة كبيرة، وتتآوى إليها طيور السماء.
ولابد للخميرة أن تُدفن في الدقيق وتضحي بنفسها وتذوب وتتفاعل معه حتى تعطى مفعولها.
هكذا قال الرب في:(يو12: 24- 25)“إنْ لم تقَعْ حَبَّةُ الحِنطَةِ في الأرضِ وتمُتْ فهي تبقَى وحدَها. ولكن إنْ ماتَتْ تأتي بثَمَرٍ كثيرٍ.مَنْ يُحِبُّ نَفسَهُ يُهلِكُها، ومَنْ يُبغِضُ نَفسَهُ في هذا العالَمِ يَحفَظُها إلَى حياةٍ أبديَّةٍ“.
هذا ما علمه لنا الرب يسوع، وما عمله … فلقد أحبنا، واسلم نفسه لأجلنا، ثم مات لأجل خطايانا،وقام لأجل تبريرنا … فالصليب قبل القيامة، ونحن إذا أرادنا أن نعيش الحياة المقامة الغالبة المنتصرة، علينا أن نموت أولاَ بصلب الجسد مع الأهواء والشهوات، وأن يكون شعارنا “مع المَسيحِ صُلِبتُ، فأحيا لا أنا، بل المَسيحُ يَحيا فيَّ“(غلا2: 20) وما جاء في (رو8: 36) “إنَّنا مِنْ أجلِكَ نُماتُ كُلَّ النَّهارِ”.
وهذا الفكر هو ما نراه أيضاً في حياتنا الأرضية فمَنْ يريد النجاح عليه أن يعيش الكفاح، ومَنْ يريد أن يحصد بفرح عليه أن يزرع بدموع.
نعم! إن كل ما يتمتع به العالم من مبادئ وقيم الحرية والديمقراطية والكرامة
فصاحب الرسالة لابد أن يدفع الثمن، والثمن غالي لأن الرسالة غالية جداً، ولعل أكبر دليل على ذلك ما حدث مع يوحنا المعمدان؟ ألم تُقطع رأسه؟! وهناك تقليد أنه بعد أن أحضرت ابنة هيروديا رأس يوحنا المعمدان على طبق إلى أمها قامت الأم بقطع لسانه بالسكين لأنه اللسان الذي كان يؤنبها. كيف لا! ألم تقتل إيزابل أنبياء الرب (1مل18: 4و 13و 19: 10)؟! وقد قال الرب يسوع “ياأورُشَليمُ، ياأورُشَليمُ! ياقاتِلَةَ الأنبياءِ وراجِمَةَ المُرسَلينَ إليها“(مت23: 37).
إذا أردنا كمؤمنين أ نقوم برسالتنا فعلينا أن نكون على استعداد لدفع الثمن حتى لو كان الثمن هو الموت.
فصوت الرب لنا: “كُنْ أمينًا إلَى الموتِ فسأُعطيكَ إكليلَ الحياةِ“(رؤ2: 10).
رابعاً : لابد أن يكون لحياتنا رسالة
رأينا في هذين المثلين أن حبة الخردل صارت شجرة كبيرة تتآوى في أغصانها طيور السماء،والخميرة خمرت العجين كله.
ويقيني أن الرب أراد أن يعلمنا من هذا المثل أنه لابد أن تكون لحياتنا رسالة وهدف.
ولا شك أن قصد الله الرائع هو أن يكون ميلاد كل إنسان هو بمثابة إضافة جديدة للحياة البشرية فمكتوب ” لأنَّنا نَحنُ عَمَلُهُ، مَخلوقينَ في المَسيحِ يَسوعَ لأعمالٍ صالِحَةٍ، قد سبَقَ اللهُ فأعَدَّها لكَيْ نَسلُكَ فيها“(أف2: 10).
إن الله يريد أن يستخدمنا ويجعل من حياتنا رسالة في عالمه، إنه يريد أن يعمل من خلالنا،فمكتوب ” أنتم رسالة المسيح الـمَعروفَةً والمَقروءَةً مِنْ جميعِ الناسِ(2كو3: 2).
فعندما خلق الله الإنسان جعله تاجاً للخليقة وسيداً عليها، خلقه ليدير العالم فمكتوب: “وأخَذَ الرَّبُّ الإلَهُ آدَمَ ووَضَعَهُ في جَنَّةِ عَدنٍ ليَعمَلها ويَحفَظَها“(تك2: 15).
وهنا نرى أن العمل لم يكن نتيجة السقوط، ولم يكن عقاباً من الله على الخطية، فقبل الخطية طلب الله من الإنسان أن يعمل (تك1: 28) “وبارَكَهُمُ اللهُ وقالَ لهُمْ:”أثمِروا واكثُروا واملأُوا الأرضَ، وأخضِعوها، وتسَلَّطوا علَى سمَكِ البحرِ وعلَى طَيرِ السماءِ وعلَى كُلِّ حَيَوانٍ يَدِبُّ علَى الأرضِ”.
وهل يوجد دليل أقوى من الصورة التي صورتها عدسة الوحي المقدس للرب يسوع وهو يعمل نجاراً (مر6: 2) وقال: :”أبي يَعمَلُ حتَّى الآنَ وأنا أعمَلُ”(يو5: 17). والرسول بولس كان يصنع الخيام بيديه (أع20: 34 مع 1كو4: 12).
نعم! فلئن كانت واحدة من الوصايا العشر تنص على راحة السبت، فالسبب يرجع لأنه يأتي بعد ستة أيام عمل، فالعمل هو تحقيق لمشيئة الله، وكلمة الله تدين بوضوح الكسل فمكتوب : “نَفسُ الكَسلانِ تشتَهي ولا شَيءَ لها“(أم13: 4) “ وإنْ كانَ أحَدٌ لا يُريدُ أنْ يَشتَغِلَ فلا يأكُلْ أيضًا”(2تس3: 10).
وقيمة الإنسان الحقيقية ليس في كم يملك؟! وإنما في كم يعطي؟! ومدى إسهاماته في خدمة البشرية فكم كان يمتلك إيليا؟ وكم كانت ثروة إليشع؟ وماذا كان يمتلك يوحنا المعمدان؟ وما هي إمكانات تلاميذ المسيح؟
إن قيمة الإنسان هي فيما يضيف للبشرية من إبداعات ونظريات، وفيما يقدم من خدماتوإنجازات تساعد على تقدم وإزدهار وإستقرار البشرية، وبقدر ما يعطي الإنسان بقدر ما ترتفع قيمته ومكانته.
نعم! كم من مفكرين ومخترعين وأنبياء وقديسين حفروا أسمائهم في التاريخ بالرغم أنهم فقراء لا يملكون شيئاً لكنهم أثروا البشرية بفكرهم وعطائهم المتميز، فمَنْ في مصر ينسى ” لليان تراشر”؟! ومَنْ في الهند لا يعرف ” الأم تريزا”؟! ومَنْ في جنوب أفريقيا لا يفتخر ” بنلسون مانديلا” ؟!، ومَنْ في أمريكا ينسى دور الرئيس “إبراهام لنكولن” محرر العبيد؟! ومَنْ في الكنيسة ينكر دور الآباء مثل أثناسيوس وأغسطينوس بوليكاربوس وغيرهم، ومن قادة الإصلاح مثل “مارتن لوثر” وﭽون كلـﭭن”، و “ﭽون وسلي وغيرهم“.
ومَنْ في الدنيا كلها لا يعرف ” سقراط وأفلاطون وأرسطو وإديسون ونيوتن و أرشميدس وآينشتين و فيثاغورث وجاليلوا وبرايل وزويل وغيرهم الكثير؟!.
حقاً ! أن كل إنسان يساوي القضية المشغول بها والتي يعطيها وقته وعمره.
لقد دعانا الرب لتكون لنا حياة هادفة ومثمرة ومؤثرة، حياة تؤدي دورها ورسالتها في بنيان ملكوت الله فيتمجد اسم إلهنا … فهل نحن كذلك … هل؟!.