القراءة الكتابية: “وإذ كانَ الجَمعُ يَزدَحِمُ علَيهِ ليَسمَعَ كلِمَةَ اللهِ، كانَ واقِفًا عِندَ بُحَيرَةِ جَنِّيسارَتَ. فرأَى سفينَتَينِ واقِفَتَينِ عِندَ البُحَيرَةِ، والصَّيّادونَ قد خرجوا مِنهُما وغَسَلوا الشِّباكَ. فدَخَلَ إحدَى السَّفينَتَينِ التي كانَتْ لسِمعانَ، وسألهُ أنْ يُبعِدَ قَليلاً عن البَرِّ. ثُمَّ جَلَسَ وصارَ يُعَلِّمُ الجُموعَ مِنَ السَّفينَةِ. ولَمّا فرَغَ مِنَ الكلامِ قالَ لسِمعانَ … “لاتخَفْ! مِنَ الآنَ تكونُ تصطادُ الناسَ!”. ولَمّا جاءوا بالسَّفينَتَينِ إلَى البَرِّ ترَكوا كُلَّ شَيءٍ وتبِعوهُ”(لو5: 1- 11).
أجرى الرب يسوع الكثير من معجزاته الخارقة حول بحيرة جَنِّيسارَتَ وقدم العديد من عظاته على شواطئها الجميلة التي كانت بمثابة كنيسة لشعبه، وقارب الصيد كان منبره الذي يعظ منه.
والجدير بالذكر أنه أطُلق على هذه البحيرة عدة أسماء منها ” بحر الجليل” أو ” بحيرة طبرية”ومعنى اسم جَنِّيسارَتَ ” قيثارة” أو أميرة الحدائق لأن شكلها كالقيثارة فلقد انتشرت على شواطئها تسع مدن عامرة بالحدائق الجميلة المثمرة بأشكال وألوان من الفاكهة اللذيذة المذاق.
وفي هذا الاصحاح نرى بطرس يقدم سفينته للمسيح ليعظ من عليها إلى الجمهور الذي اكتظ على شاطئ بحيرة جَنِّيسارَتَ .
هذه المعجزة ثرية بالعظات الجميلة أذكر منها الآتي:-
أولاً: الله يشرفنا وهو يشركنا في العمل معه
أخذ الرب يسوع سفينة بطرس، وجلس فيها يعلم الناس، لقد كان الرب في مقدوره أن يخلق سفينة ، ولكنه أراد أن يكرم بطرس ويباركه ويشركه معه في الخدمة، عندما يطلب الرب منا شيئاً لا يطلبه لأنه عاجز عن صنعه، ولكن لأنه يريد أن يشركنا ويشرفنا بالعمل معه.
أليس هذا ما حدث في معجزة إقامة لعازر عندما قال الرب يسوع: أرفعوا الحجر … “حُلّوهُ ودَعوهُ يَذهَبْ”.
)يو11: 44( .
وفي معجزة عرس قانا الجليل قال “املأُوا الأجرانَ” (يو2: 7) .
وفي معجزة إشباع الخمسة آلاف. أخذ الخمسة الأرغفة والسمكتين من الصبي وباركهم ووزع وأعطى.
نعم! إمتياز عظيم أن نقول: “نَحنُ عامِلانِ مع اللهِ” 1كو3: 9) . إن الرب يسوع يدعونا لإصطياد النفوس. ولاشك أن دعوة الآخرين والآتيان بهم إلى الرب يسوع هو العمل الأول الذي يجب أن يشغل أفكارنا، ويمتلك قلوبنا ويسيطر على برامجنا وتخطيطنا.
الجدير بالذكر أنه يوجد تشابه كبير بين صيد النفوس وصيد السمك
أ. الصياد يجب أن يتحلى بالصبر وطول الأناة إلى أن تُمسك صنارته السمكة ، وصياد الناس عليه أن يلقى الكلمة وينتظر بصبر عمل روح الله في قلوب البشر.
ب. الصياد يجب أن يكون مثابراً فلا يفشل سريعاً بل عليه أن يعاود محاولات الصيد مرات كثيرة، وهكذا كل خادم أمين يسعى لربح الناس عليه أن يجاهد ويجتهد بكل الطرق والأساليب لربح النفوس .
ج. الصياد يجب أن يكون شجاعاً، فالقارب صغير، والبحر واسع مليء بالمخاوف والمخاطر، وهكذا خادم الله عليه أن يدرك أن إعلان الحق الإلهي يحتاج إلى شجاعة وإقدام.
د. الصياد يجب أن يكون حكيماً إذ يختار الوقت والظروف المناسبة للصيد، وهكذا رابح النفوس يحتاج إلى حكمة كبيرة ” فرابِحُ النُّفوسِ حَكيمٌ”(أم11: 30) .
هـ. والصياد عليه أن يختفي عن الأنظار، فإن ظهوره أو حتى ظله كاف أن يمنع السمك من تناول الطُعم وهكذا كل خادم حكيم عليه أن لا يحاول تقديم نفسه للناس بل ينبغي أن يقدم لهم المسيح.
و. توجد أساليب مختلفة لصيد السمك مثل الصنارة أو الشبكة، وهكذا أيضاً هنا طرق وأساليب مختلفة لصيد النفوس مثل العمل الفردي، أو الوعظ، أو المؤتمرات، وسائل الاتصال الحديثة.
ثانياً: يملأ الرب أوانينا الفارغة عندما نكرسها له
كان بطرس يملك سفينة راسية على الشاطئ وقد خرج الصيادون منها يغسلون شباكهم بعد أن حاولوا طول الليل أن يصطادوا شيئاً دون جدوى، فلقد كانت كلها محاولات يائسة باءت بالفشل الذريع.
لقد أعطى بطرس السفينة للمسيح ليعظ فيها، لقد أعطاه السفينة خالية، فإذ بالرب يجعلها عامرة بالسمك حتى أن الشباك صارت تتخرق، فطلب الصيادون من سفينة أخرى أن تقترب منهم لمساعدتهم، فأتوا وملأءا السفينتين حتى أخذتا في الغرق.
ما أعجب وأعظم مسيحنا نعطيه أوانينا فارغة يقوم بملئها بأكثر مما نتوقع أو نتخيل من فيض جوده وسخاء نعمته. ليتنا نقدم ما عندنا له. لا لأنه يحتاج إليه، ولكن ليباركه.
كيف لا؟! ألم يحدث في أيام إيليا، عندما قامت أرملة صرفة صيدا بإعالته فكان وعد الرب لها ” أن كوار الدقيق لا يفرغ وكوز الزيت لا ينقص(امل17: 14) .
وهذا ما حدث مع أرملة من نساء بني الأنبياء عندما جاء المرابي ليأخذ ولديها كعبدين حتى تسدد الدين الذي عليها وعندما جاءت تقدم شكواها لرجل الله اليشع، سألها عن ممتلكاتها أجابت “ليس لجاريَتِكَ شَيءٌ في البَيتِ إلا دُهنَةَ زَيتٍ”. فقالَ: “اذهَبي استَعيري لنَفسِكِ أوعيَةً مِنْ خارِجٍ، مِنْ عِندِ جميعِ جيرانِكِ، أوعيَةً فارِغَةً. لا تُقَلِّلي. ثُمَّ ادخُلي وأغلِقي البابَ علَى نَفسِكِ وعلَى بَنيكِ، وصُبِّي في جميعِ هذِهِ الأوعيَةِ … ولَمّا امتَلأتِ الأوعيَةُ … فأتَتْ وأخبَرَتْ رَجُلَ اللهِ فقالَ:”اذهَبي بيعي الزَّيتَ وأوفي دَينَكِ، وعيشي أنتِ وبَنوكِ بما بَقيَ”.(2مل4: 1- 7).
ثالثاً: الله لم يعطنا روح الفشل
كان بطرس قد تعب الليل كله ولم يصطاد شيئاً، ولعله أحس بالفشل في مهمته، لكن الرب يسوع طلب منه أن يبذل محاولة أخرى في الصيد بالرغم من تعبه، وكأن الرب يسوع هنا يشجعه لكي يقوم من إحساسه بالإحباط والفشل .. قال أحدهم كنت أظن أن أسوأ ما في الحياة هو الفشل ولكن تأكدت أن هناك ما هو أسوأ منه، إنه الاستسلام للفشل.
إن الفشل لا يعني نهاية فرصة النجاح، ولكنه في الحقيقة يمكن أن يكون البداية لإنطلاقة كبيرة، علينا أن نرفع من قاموس حياتنا كلمة مستحيل، لأنَّ اللهَ لم يُعطِنا روحَ الفَشَلِ”(2تي1: 7). فاليأس والاستسلام والروح والانهزامية لا تتفق مع الإيمان على الإطلاق، لأن الإيمان أمل ورجاء وتفاؤل، ” فـالإيمانُ هو الثِّقَةُ بما يُرجَى والإيقانُ بأُمورٍ لا تُرَى”. الإيمان بالله يعني أن الله معي وبه أستطيع أن أتخطى كل المشاكل والعقبات والصعاب.
نعم! إذ لم تقدنا ثقتنا بإلهنا إلى ثقتنا بأنفسنا وقدراتنا فهذا إيمان يجب مراجعته.
كيف لا؟! مَنْ منا مر في حياته بالمآسي التي مر بها يوسف … كان من الممكن أن يلقي يوسف اللوم على الظروف ويفشل، وإذا فشل نلتمس له العذر، لكنه واصل المسير مع الله حتى وصل لأعلى مكانة في مصر.
كيف لا ؟! آلم يواجه بولس الرسول أشكال وألوان من الالآم ولكنه لم يستسلم للظروف ولم يترك خدمته.
إن الإيمان ولد التحدي والصبر والمثابرة والرجاء في داخله ليواصل رحلاته وخدماته، ويحقق خطته في خدمة الله.
– إن الإيمان لا يجعلنا نستسلم للظروف ونفشل ولكن نكرر المحاولة مرة واثنتين وإذا فشلنا نفكر في البدائل.
– إن الإيمان لا يجعلنا نلعن الظروف المعاكسة بل أن نستثمرها، قال جوته:” ما من تجربة حلت بي إلا وأنطقتني شعراً، وقال دارون الذي هز العالم كله بنظرياته ” لو لم أكن مريضاً وطريحاً بالفراش لما أنجزت من الأعمال ما أنجزت.
رابعاً: الطاعة سر البركة
كان بطرس في نفس البحيرة، وفي نفس القارب، ويستعمل نفس الشباك كالليلة العقيمة التي قضاها في الصيد ولم يصطاد أي شيء. ولكن يا له من اختلاف كبير قد حدث عندما أطاع المسيح فلقد خاطب يسوع بطرس قائلا :”ابعُدْ إلَى العُمقِ وألقوا شِباكَكُمْ للصَّيدِ”. فأجابَ سِمعانُ وقالَ لهُ:”يا مُعَلِّمُ، قد تعِبنا اللَّيلَ كُلَّهُ ولم نأخُذْ شَيئًا”.
كان يمكن لبطرس أن يجيب يسوع بالقول: يا سيدي أنا صياد وأعرف كل طرق الصيد، وأنت نجار، وليس لديك خبرة بفنون الصيد إن الليل هو وقت الصيد وليس الصباح، ولكن الرب يسوع أمر وألزم بطرس، وعلى الفور قال بطرس: “علَى كلِمَتِكَ أُلقي الشَّبَكَةَ”. وهنا نلاحظ التغيير من صيغة الجمع لصيغة المفرد فيسوع قال:” ألقوا الشباك” ولكن بطرس قال ” الشبكة” فكما لو أنه قال لنفسه سوف أطيع أمره مع أني أعرف أن النتيجة لن تختلف في شيء عن الليلة السابقة،سوف القى شبكة واحدة على سبيل التجربة.
وكم كانت نتيجة إنزال الشبكة في البحر مذهلاً، لقد كانت هناك كمية كبيرة من السمك تفوق قدرة الشبكة على الاستيعاب لدرجة أن بطرس إضطر بالإستعانة بزملائه الصيادين في القارب الآخر لمساعدته في جذب الشبكة إلى الشاطئ.
لم يكن نجاح بطرس بسبب الظروف المواتية لكن بسبب طاعته لأمر المسيح صاحب السلطان،والإنسان لا ينجح بسبب الظروف المهيأة لكن بسبب تجاوبه لما يقوله الرب.
والمعجزة هنا أن السمك كان بجوار قارب بطرس في نفس اللحظة التي قال فيها يسوع “القوا شِباكَكُمْ” وقد استطاع الرب بقوته إحضار السمك في المكان المعين وفي اللحظة المعينة، فالمسيح هو رب البحر كما هو رب البر أيضاً (مز8). الحاكم المتسلط على كل شيء، فالسمك لم يتصادف وجوده بمحاذاة قارب بطرس في تلك اللحظة ولكن السمك أطاع إرادة عليا … هل نتعلم طاعة السيد لكي ننال البركة فمكتوب ” إن سمعتم وأطعتم تأكلون خير الأرض”(أش1: 19) .
خامساً : الله يمكنه إستخدام أصحاب الوزنات القليلة في خدمات جليلة
كان الرب يسوع ماشياً عند بحر الجليل عندما أبصر بطرس واندراوس ثم يعقوب ودعاهم ليتبعوه .
ولعل السؤال الذي يفرض نفسه هو لماذا دعا الرب يسوع أولئك الذين لم يكونوا على علم غزير، أو أصحاب نفوذ وسلطان، أو ثروة طائلة؟! لقد كانوا جماعة من العمال البسطاء الذين بحسب نظرة البشر ” بدون مستقبل” ولكن هؤلاء الناس كانوا هدفاً لدعوة المسيح، لعل هذا يذكرني بما قيل عن سقراط أنه أراد يوماً أن يدعو شاباً فقيراً ليكون تلميذاً له، فأجابه الشاب بقوله أنت تعلم يا سقراط أني فقير، ليس عندي شيء أعطيه إلا نفسي، فقال له سقراط ” ها أنت قدمت لي أثمن شيء في الوجود، وأنا لا أريد منك أكثر من هذا”.
هكذا يمكن أن نقول عن أولئك الصيادين الذين دعاهم الرب يسوع للتلمذة لم يكن لهم إلا نفوسهم وهذا ما أراده المسيح. وربما هذا يفسر ما قاله الرسول بولس في (1كو1: 27) “اختارَ اللهُ جُهّالَ العالَمِ ليُخزيَ الحُكَماءَ”.
سادساً: شروط إتباع الرب يسوع
هذه المعجزة ترينا الشروط التي لابد من توافرها لمَنْ يريد اتباع يسوع والعمل في صيد النفوس تحددها هذه المعجزة.
1. الاعتراف بخطايانا
لقد صرخ بطرس “اخرُجْ مِنْ سفينَتي يارَبُّ، لأنِّي رَجُلٌ خاطِئٌ!”(لو5: 8).
إن اتباع المسيح أمر يتطلب الاعتراف به مخلصاً، والاعتراف بعدم استحقاقنا لهذا الامتياز، ويعني ترك كل الماضي خلفنا، وتكريس حياتنا له بالتمام له.
2- الترك
( لو5: 11) ” ترَكوا كُلَّ شَيءٍ وتبِعوهُ”. … في مرة قال بطرس للرب “ها نَحنُ قد ترَكنا كُلَّ شَيءٍ وتبِعناكَ. فماذا يكونُ لنا؟”(مت19: 27) . وكانت إجابة الرب في (مت19: 29)”وكُلُّ مَنْ ترَكَ بُيوتًا أو إخوَةً أو أخَواتٍ أو أبًا أو أُمًّا أو امرأةً أو أولادًا أو حُقولاً مِنْ أجلِ اسمي، يأخُذُ مِئَةَ ضِعفٍ ويَرِثُ الحياةَ الأبديَّةَ”.
3- الإستعداد لدفع الضريبة والثمن
” قالَ الرب يَسوعُ لتلاميذِهِ:”إنْ أرادَ أحَدٌ أنْ يأتيَ ورائي فليُنكِرْ نَفسَهُ ويَحمِلْ صَليبَهُ ويتبَعني”(راجع مت16: 24 مع مر8: 34 مع لو9: 23) .
سابعاً: علينا أن نتعلم الانبهار والامتنان لأعمال الله العظيمة
لقد اندهش بطرس وجميع الذين معه إنداهشاً كبيرا من صيد السمك الوفير، ولعل هذا معناه أنهم عبروا بطريقة أو بأخرى عن عظمة الرب يسوع وقدرته المعجزية الخارقة، وعبروا أيضاً عن إمتنانهم وشكرهم لصنيعه العظيم معه، ونحن نحتاج أن نتعلم من هذه المعجزة كيف ننبهر أمام أعمال الله العجيبة … كيف نتغنى “ما أعظَمَ أعمالكَ يارَبُّ! كُلَّها بحِكمَةٍ صَنَعتَ”(مز104: 24). كيف نشدو”أيُّها الرَّبُّ سيِّدُنا، ما أمجَدَ اسمَكَ في كُلِّ الأرضِ!”(مز8: 1) .علينا أن نقدم الشكر على كل أعمال يديه معنا فنحقق القول الكتابي “ليَتَمَجَّدَ في قِدِّيسيهِ ويُتَعَجَّبَ مِنهُ في جميعِ المؤمِنينَ”(2تس1: 10) .كم من معجزات تحدث أمامنا كل يوم ومن استمرارها وتكرارها أصبحنا لا ننبهر برؤيتها ولا نشعر بروعتها وعظمتها.
لقد اعتاد كثيرون أن ينظروا إلى التفاحة وهي تسقط من الشجرة كأمر عادي درجوا على رؤيته ولكن اسحق نيوتن وحده بعينه البصيرة رأى في سقوطها الجاذبية الأرضية.
نعم! نحتاج أن نتدرب بأن نرى يد الله وعظمته في كل ما يحدث أمامنا. ونهتف من أعماقنا ” لا مِثلَ لكَ بَينَ الآلِهَةِ يارَبُّ، ولا مِثلَ أعمالِكَ”(مز86: 8).