“كُلُّ مَمْلَكَةٍ مُنْقَسِمَةٍ عَلَى ذَاتِهَا تُخْرَبُ، وَكُلُّ مَدِينَةٍ أَوْ بَيْتٍ مُنْقَسِمٍ عَلَى ذَاتِهِ لاَ يَثْبُتُ.”
نقرأ هذه الكلمات وقد لا نجد من يعترض عليها. إنها فكرة منطقية للعقل، وتؤكدها الخبرة البشرية في تاريخ الحضارات والعلاقات الإنسانية المختلفة. لقد خرج من هذه الحقيقة التعبير الشائع “فرق تسد” وهو الأسلوب الذي استخدمته القوى الإستعمارية في أماكن عديدة على مر الزمن، لتٌضعف البلاد التي تسعى للسيطرة عليها وإخضاعها لسلطانها.
لكن الأمر الغريب والمحير أن الإنسان يفشل كثيراً في تحكيم العقل والتعلم من عبر التاريخ، فيسير في طريق الانقسام ولا يدرك أنه سيهوي به إلى ضعف وخراب. قد يحدث هذا عن نوازع ذاتية لتحقيق مطامع ومكاسب شخصية. إن التاريخ الإنساني يشهد عن أوجاع عشرات بل مئات الملايين الذين عانوا من هؤلاء الناس والقيادات الذين قسّموا أسراً وفككوا عائلات، وأطاحوا بدول وحضارات.
أحياناً أخرى يحدث هذا عن نية طيبة ولأغراض نبيلة؛ حيث يدافع الفرد بشدة عن أمور تبدو له هامة ويناضل لأجلها بكل ما عنده من قوة. إن هذا أمر طيب ومطلوب إن لم يتعدَّ الإطار والحدود المناسبة. ينبغي أن نراعي أن لا يتحول نضالنا إلى إساءة وتجريح في الآخر يثير الغضب ويزرع بذور الفرقة والانقسام. إن النضال غير الحكيم الذي يبغي التقدم والبناء قد يؤدي إلى تأخر بل وزعزعة كيان الجماعة وانهيارها. إن الحكمة تعلمنا لا أن ننظر فقط للحظة الراهنة بل لما يمكن أن تصنعه من مستقبل. إن الحكمة تعلمنا أن نحسب جيداً النتائج المحتملة لما نقوله ونعمله لكي لا نحصد عكس ما رجونا.
إن “كُلُّ مَمْلَكَةٍ مُنْقَسِمَةٍ عَلَى ذَاتِهَا تُخْرَبُ” مبدأ وقاعدة ثابتة في الحياة الإنسانية. إنها ليست مجرد نظرية تخضع للصواب والخطأ بل تعليم حق ذكره السيد المسيح (متى 12: 25). كما أن الخشب يحترق بالنار والماء يتبخر عند درجة غليان معينة، هكذا أيضاً تخرب الدول بانقسامها على نفسها وتتزعزع الكيانات الإنسانية وتنهار بتفكك وحدتها.
نحتاج أن نراعي هذا المبدأ ونحن نسعى لإعادة بناء مصر في هذه المرحلة الحاسمة من تاريخها، كما يجب أن نراعيه في الكيانات الاجتماعية والدينية. إن مراعاة هذا المبدأ لا يعني عدم وجود اختلافات في الرؤى والأفكار، لكنه يعني أن لا نسمح بأن تصنع هذه الاختلافات خلافات أو تبني حواجز أو تضع مسافات بيننا. إنه يعني أن نحسن الاستماع لبعضنا بكل احترام وتقدير لقيمة الآخر، وحقه المشروع في التعبير السلمي عن رأيه. إنه يعني أن يعمل الجميع للخير والبنيان تحت لواء الغالبية.
نحتاج أن لا ننسى أننا بشر خطاءون فينا العديد من جوانب الضعف في شخصياتنا وسلوكياتنا. لذلك لا يجب أن نُفاجأ بخطأ يصدر من أحد؛ بل نسعى لاستيعابه بحب محتمِل وقلوب متضعة لكي نحافظ على التماسك والوحدة معاً، كما يعلمنا الكتاب المقدس إذ يقول:”أَنْ تَسْلُكُوا .. بِكُلِّ تَوَاضُعٍ، وَوَدَاعَةٍ، وَبِطُولِ أَنَاةٍ، مُحْتَمِلِينَ بَعْضُكُمْ بَعْضاً فِي الْمَحَبَّةِ. مُجْتَهِدِينَ أَنْ تَحْفَظُوا وَحْدَانِيَّةَ الرُّوحِ بِرِبَاطِ السَّلاَمِ”.