لم يكن “توت عنخ آمون” الأبرز أو الأقوى ضمن الفراعنة في مصر القديمة.. ولد حوالي 1361 قبل الميلاد، وأصبح ملكاً في سن صغيرة (التاسعة) ولم يدم في الحكم سوى تسع سنوات أخرى، لم تكن هناك أية خطوة ذات أهمية أثناء فترة حكمه القصيرة سوى رفضه التوحيد الذي فرضه إخناتون (الحاكم الذي سبقه) عندما أصر على أن مصر يجب أن تعبد إله الشمس أتون وحده…فقد سمح توت عنخ آمون للمصريين العودة إلى عبادة آلهتهم ،من أبرزهم الإله آمون.
إذاً فما هو السر الذي يجعل أسم توت عنخ آمون اليوم الأكثر شهرة على مستوى العالم؟ ربما لأن قبره تم إكتشافه بكامل محتوياته المقبرة سالمة مع العلم أن معظم مقابر الفراعنة تعرضت للسرقة على مر التاريخ، وهذا ما يجعل مقبرة توت عنخ آمون أمر إستثنائي نادر..
ويقول علماء الآثار أن المقبرة لم تنج تماما من النهب، ولكن الأضرار كانت طفيفة..فعلى ما يبدو أن اللصوص في الزمن القديم، حاولوا مداهمة المقبرة والفوز بالكنز المدفون بها، ولكن تم ضبطهم وإسترداد المجموعة المنهوبة.
تم إغلاق المقبرة ونجت من المزيد من النهب.. وظلت هكذا حتى نوفمبر من عام 1922 حينما إكتشفها عالم الآثار البريطاني “هوارد كارتر”، الذي كان يعمل تحت رعاية اللورد كارنارفون، ليجدها سليمة .. إكتشاف كارتر المذهل جاء بعد أربعة مواسم من العمل الشاق في الوادي الذي قال عنه علماء الآثار أنه لم يعد به اي مقابر لم تكتشف بعد..وقد ذهل كارتر عندما نظر ما بالمقبرة لأول مرة من خلال ثقب صغير حتى أنه لم ينطق سوى كلمات قليلة: “الأشياء بالداخل عجيبة.. كلها ذهب، ذهب، ذهب….”
وقد نقلت مجموعة الدفن التي وجدت في مقبرة توت عنخ آمون والتي اكتسبت شهرة عالمية، إلى المتحف المصري في القاهرة حيث لا تزال في العرض هناك ، ولم يبق سوى مومياء الفرعون في المقبرة… ولكن أصبحت المقبرة وجهة السياح الذين زاروا المقابر القديمة في وادي الملوك بالضفة الغربية في الأقصر. المقبرة في حد ذاتها صغيرة نسبيا. كان من عادة الفراعنة البدء في بناء مقابرهم بمجرد اعتلاء العرش، ويظل البنائين والفنانين في توسيع تلك المقابر وتزيينها حتى يموت الملك… ولأن توت عنخ آمون ماتفي سن صغيرة جداً، فلم يكن هناك وقت لإنشاء مقبرة كبيرة ؛ لذلك دفن في المكان المتاح الذي كان قد إنتهى منه البناءون.. ولكن رغم صغر مساحة المقبرة إلا أن المجموعة المدفونة معه كانت ثرية وجميلة بشكل مذهل.
الأعداد الهائلة من الزوار التي زارت مقبرة توت عنخ آمون مثلها مثل المقابر الأخرى المفتوحة للزوار في وادي الملوك.. ولكن أثرت سلبا على النقوش الملونة على جدران المقبرة، وبنية الحوائط . وارتفع مستوى الرطوبة وثاني أكسيد الكربون داخل المقابر إلى مستويات تنذر بالخطر الذي يهدد وجودها. فكان من البديهي إغلاق الكثير من تلك المقابر، حيث أنها تمثل ثروة من التراث من الناحية البشرية والإقتصادية في مصر.
وإتخذ خبراء الآثار المصرية مثلا أعلى من دول العالم التي أغلقت المواقع المهددة وقامت بعمل نسخة طبق الأصل منها.. على سبيل المثال كهوف لاسكو في جنوب فرنسا التي ترجع إلى ما قبل التاريخ ، كما أغلقت مواقع التراث الهندي الأمريكي في ولاية كولورادو، وغيرهم أمام الزوار وفتح بدلا منها نسخة طبق الأصل… فلماذا لا يتم الشيء نفسه مع المقابر المصرية؟
بدأ العمل المضني في عام 2009 بمنحة سخية من الإتحاد الأوروبي لإنشاء نسخة طبق الأصل من مقبرة توت عنخ آمون، وقد تم إختيار المقبرة لصغر حجمها الذي لا يزيد عن حجرة الدفن التي تبلغ مساحتها 60 م2 وأيضا لأن عدد زوارها يبلغ ما يزيد على 1000 زائر يوميا.
أبدع الخبراء الأسبانيون والسويسريون في عمل أدق التفاصيل على الجداريات باستخدام تقنية المسح الضوئي ثلاثية الأبعاد. وكان أحد أصحاب هذه الفكرة هو “آدم لوي” ، وهو الفنان والمرمم البريطاني الذي قاد إخراج صورة طبق الأصل لمقبرة توت عنخ آمون ، كما قام بالأشراف على تركيبها في الأقصر.
المقبرة طبق الأصل تكلفت 515 ألف يورو هي النسخةالأكثر تفصيلاً من أي نسخة أخرى . لقياس المقبرة الأصلية، إستخدمت الشركة المنفذة ” فاكتوم آرتي” الماسح الضوئي الخاص بها والذي يستطيع التقاط صور صغيرة جداً تصل إلى العشر من الملليمتر.
وقد تم نحت النسخة من المقبرة نفسها بإستخدام آلة التي يمكنها أن تعمل أصغر التفاصيل بدقة بمقدار ثلث ملليمتر في الطول. في منتصف حجرة الدفن حيث الجدران تحمل مشاهد من الفصل الأول لكتاب الموتى هناك صخرة مستطيلة في مكان التابوت الأصلي للملك توت عنخ آمون الموضوع فيه مومياء الملك .. وفي القاعة التي تصل بين حجرة الدفن وغرفة انتظار تم تعليق صور وكتابات توضيحية لإكتشاف المقبرة وكنوزها في عام 1922 بواسطة كارتر.
وقد تم إقامة نسخة المقبرة على بعد 200 متر من منزل كارتر، الذي كان مقره خلال السنوات العشر التي قضاها لعمل فهرسة لمحتويات مقبرة توت عنخ آمون.. يقع المنزل على الضفة الغربية لمدينة الأقصر قبيل مدخل وادي الملوك .. بعد سنوات طويلة من الإهمال، تم ترميمه في عام 2009 وتحول إلى متحف جميل مفتوح للزائرين الذين يجدوا هناك مطبخ كارتر، غرفة الطعام، غرفة نوم ومكتب واستوديو التصوير.
وفي تصريح لوطني ، قال إبراهيم سليمان المدير العام لآثار الكرنك أنه بمجرد أن تسلمنا المقبرة من الإتحاد الأوروبي، تم حفظها مؤقتاً بالقاهرة لتكون في مأمن حتى يتم نقلها إلى الأقصر عبر النيل ليتمكن المصريون من الإحتفال بتراث أجدادهم.. ولكن للأسف، حالت دون ذلك الأوضاع الأمنية في البلاد.
واضاف سليمان أنه بمجرد وصولها إلى الأقصر، تم رفعها بواسطة رافعة عملاقة وضعت على عربات نقل إلى مخزن الآثار في الضفة الغربية.. واستغرقت عملية التركيب ثلاثة أشهر.
وفي أوائل الشهر الحالي تم إفتتاح مقبرة توت عنخ آمون …حضر الإفتتاح محافظ الأقصر طارق سعد الدين، ووزير السياحة هشام زعزوع، ووزير الدولة لشؤون الآثار محمد إبراهيم، سفير الاتحاد الأوروبي في القاهرة جيمس موران، إضافة إلى سفراء أوروبا وأمريكا اللاتينية في القاهرة… كان الجميع منبهر بالمقبرة طبق الأصل …وعندما رآها الزائرين لأول مرة بعضهم قد زار المقبرة الأصلية، أكدوا أنه لا يوجد إختلاف على الإطلاق.
وقال وزير السياحة زعزوع أن هذه الخطوة تمهد الطريق للسياحة المستدامة مع استخدام نسخ طبق الأصل لحماية المواقع الأصلية..الآن يتم عمل خطة لتدريب فريق من المصريين لتسجيل ونسخ المقابر في المستقبل بحيث يمكن لمصر أن تكون في طليعة هذه العملية في المستقبل.. وصرح السيد سليمان أن هناك خطة لإنشاء نسخ طبق الأصل، لمقابر سيتي الأول والملكة نفرتاري.
وعن ما إذا كانت المقابر الأصلية سيتم إغلاقها للجمهور، أجاب وزير الأثار ان هناك فكرة للحد من أعداد الزائرين عن طريق رفع أسعار التذاكر والذي من شأنه أن يجذب اللإنتباه إلى زيارة المقابر طبق الأصل ويجعل منها بديل ممتع.
يمكن أيضا تطبيق هذا النظام على مواقع أخرى غير المقابر.. قال منصور بريك لوطني، رئيس الإدارة المركزية لآثار الكرنك في مصر، أن تجربة كهف “لاسكو” يمكن تكرارها في العديد من الكهوف التي تنتمي لعصور ما قبل التاريخ وتحتوي على رسومات مذهلة للحيوانات في الجلف الكبير على الحدود المصرية الليبية السودانية.