يُعرف الإبتزاز بشكل عام بأنه الحصول على شئ ما، منافع أو أموال، من شخص آخر تحت التهديد بالتشهير أو غير ذلك من الضغوط. وأمثلة الإبتزاز عديدة وكثيرة وخاصة فى مجتمعاتنا التى تعيش حالة ثقافية تشجع على ابتزاز الطرف الأضعف فى العلاقات والمعاملات أو حتى بدون ذلك.
ولعل المثال الأبرز على ذلك يتجلى فى العلاقات بين الرجال والنساء والتى تحفل بصنوف الإبتزاز وخاصة ضد النساء لأنهم الطرف الأضعف فى منظومة تستخدم الأخلاق، “الزائفة قطعا”، من أجل ابتزاز الآخر وإخضاعه. وكما أن هناك ابتزاز مالى، هناك أشكالا أخرى للإبتزاز الوجدانى أو العاطفى. وفى هذه السطور أود أن أشير إلى حالة الإبتزاز الوجدانى أو العاطفى ذات الطبيعة السياسية والتى تعاظمت فى ظل ما يسمى “الربيع العربى”.
فلو لاحظنا منذ البداية، ثمة مجموعات دأبت على إدعاء “الشرف” الثورى أو الوطنى، وبالطبع فنحن لسنا ضد أن يصف شخص أو جماعة نفسه أو نفسها بأية صفة، ولكن ما نحن ضد هو أن يتم توظيف توصيف الذات من خلال تحقير الآخرين. وهذا ما يجعل الأوصاف مجرد إدعاءات يمكن أن تقع تحت بند الإبتزاز. وقد اتسمت هذه الإدعاءات بعدد من السمات ومنها على سبيل المثال: وصف الآخرين بالخنوع والعبودية وغير ذلك من الألفاظ كـ “حزب الكنبة” أو “عبيد البيادة” أو “الخرفان” .. الخ. ويلاحظ كذلك أن هذه التوجهات تزيد وتقل حسب الظروف السياسية، ففى لحظات الاحتدام السياسى كأوقات المواجهات أو الانتخابات أو الاستفتاء تزيد وتيرة الاتهامات ووصم الآخرين وإثبات الشرف الذاتى. كماأن آلية وصم الآخرين وتحقيرهم لا تخص فقط الخصوم السياسيين، بل قد تطال من هم ليسوا “نحن” أو من هم ليسوا فى “صفنا”، ولعل وصمة حزب “الكنبة” كانت الدليل الأكبر على الرغبة “الثورية” فى إهانة وتحقير الآخرين فى المطلق. وبفضل الفيسبوك وأدوات التواصل الاجتماعى، تشكل حيز مجانى لإدعاءات الشرف من خلال تحقير الآخر، فيكفى أن يكتب شخصا ما رسالة أو يمررها لكى يشعر بأنه ضمن فسطاط “الشرفاء” وضد فسطاط “الحقراء”. وهكذا أصبح المشهد بشكل عام عبارة عن لوحة وهمية ومشوهة لإدعاءات الشرف ووصم الحقارة. وعموما فإن هذه الظاهرة ليست جديدة، فهى معروفة وشائعة فى المجال السياسى بوصفه مجالا خصبا للإبتزاز والتخوين والتحقير، وأكثر من ذلك أى الاستبعاد والقتل. ولكن هذه الظاهرة كانت، لحد كبير، محصورة ضمن نطاق محدد، أى ضمن الجماعات والأفراد المنخرطين فى عالم السياسة. أما الجديد فيما يحدث الآن هو أن الظاهرة باتت أوسع نطاقا نتيجة لتزايد الإهتمام بالسياسة، خاصة بين الشباب، وزيادة أثر الإعلام المرئى وأدوات التواصل الاجتماعى.
والمشكلة فى حقيقة الأمر تتمثل فى أن هذا النمط من الابتزاز، أيا كانت مبرراته، هو تعبير عن حالة من العنف اللفظى المتنامى والذى وصل فى بعض الأحيان إلى حد الهستريا. وليس غريبا أن تنعكسهذه الحالة العنيفة الممتدة على العلاقات الشخصية، فقد لاحظنامرارا وتكرارا كيف يخسر الأصدقاء بعضهم البعض بسبب هذه اللغة العنيفة، وكيف أن الكثيرين قرروا الإنسحاب من هذا المناخ الذى يتسم بالإبتزاز والتردى اللفظى. والغريب أن معظم من يبتزون الآخرين ويحقرونهم، لم يثبتوا لنا أن فى مقدورهم تقديم حلول فعالة لأى مشكلة، أو حتى القدرة على التأثير فى الأحداث، وهو ما يجعل “شرفهم” مجانى لا يرتكز على وقائع أو براهين، ولا يتحقق إلا من خلال ابتزاز آخرين.