كان السيد المسيح يتجه نحو أورشليم في آخر زيارة له إليها. وكان قد سبق له أن أورد على مسامع تلاميذه واتباعه سلسلة من الأمثال رمى من ورائها إلى إعطائهم أمثولة في التمرّس ببعض من الفضائل ، وختمها بمثل الفريسي والعشار وقد أوضح فيه أن صلاة المتواضعين مقبولة عند الله، وصلاة المتكبّرين مرذولة لديه
وهذا ما نود أن نلّم به من خلال تأملنا للإنجيل المقدس للقديس لوقا (١٨: ٩ – ١٧) سائلين الله أن يهبنا الشجاعة لننبذ الكبرياء ونتحلى بالتواضع، فتكون صلاتنا مقبولة لديه تعالى .
١ – فريسي وعشار :
مثّل السيد المسيح رجلين صعدا إلى الهيكل . وكان الهيكل قائماً على جبل صهيون في أورشليم . وكان المصلّون يصعدون إليه ليشتركوا في الحفلات الدينية ، ويرفعوا الصلوات إلى الله ، فينتشرون في أروقته . ولعل هذين الرجلين تمثلهما السيد المسيح في رواق اليهود وقد كشف عن هويتهما . احدهما فريسي والأخر عشار . وهذا هو وجه الطرافة في هذا المثل . ذلك ان الفريسيين كانوا في اعتقاد الناس برره أخياراً، لا تردّ لهم طلبة لدى الله ، وان العشارين كانوا خطأة مشاهير لا تقبل لهم صلاة . ولا غرو فالفريسيون كانوا يؤلفون الطبقة المختارة في المجتمع اليهودي ، وكان من بينهم العلماء والقضاة والكتبة وأعضاء مجلس الشيوخ . وكانوا يعتبرون حماة الشرائع والقوانين وينعمون بالتقدير والاحترام . بيد أن العشارين كانوا متهمين في دينهم ووطنيتهم ، لأنهم كانوا جباة يتقاضون الناس ، على مداخل المدن ، ما تفرضه السلطة الحاكمة الأجنبية الرومانية من ضرائب . وكانوا يخالطون الوثنيين ويتخلّقون بأخلاقهم . فكان الشعب يكرههم ويحتقرهم . ولهذا كان الناس يدهشون عندما كانوا يرون السيد المسيح يعطف عليهم ويعاشرهم ويؤاكلهم على موائدهم كما فعل مع زكّا وكان هذا من رؤسائهم ، (لوقا ١٩ : ١ – ١٠ ) . ولكن إذا كان العشارون محقورين والفريسيون مكرمين في عين الناس ، فإن السيد المسيح قد قلب الموازين وهذا ما نراه في هذا المثل .
٢ – نوعان من الصلاة :
أتى الفريسي الهيكل مرفوع الرأس يزهوه العجب بالنفس وراح يتقدم بخطى ثابتة حتى وقف في مقدمة الرواق . وافتتح صلاته بالشكر لله . وما أجملها من فاتحة لو عقبتها عاطفة تقوية صادقة . ولكنها فاتحة جوفاء، ظهر فيا ذكر الله في لمحة بصر ثم غاب ، ولم تدر الصلاة عليه تعالى ولا كان محورها . لكنها دارت على القائم بها، فكان الفريسي عينه هو محورها . فبقى وحده في الساحة التي غاب عنها الله والناس . وعلى أي شيء شكر الله في فاتحته ؟ شكره على انه ليس كسائر الناس . ويوضح قائلاً : ” الجشعين الظالمين الفاسقين ” . وحانت منه التفاتة إلى العشار الواقف وراءه فقال – وكأنها ضربة سوط – ولا كهذا العشار، ويا لها من صلاة تقوم على كشف معايب الناس ونعتهم بأقبح النعوت ورشقهم بالشتائم والسب ! وكأنه من طبقة فريدة وهم من سواها. وإذا به يمتنّ على الله فيذكّره بأنه يؤدّي الفرائض الثلاث : الصلاة والزكاة والصوم . أما الصلاة فهو في جوّها، وأما الزكاة فانه يؤدي عشر دخله ، لا عشر نتاج أرضه فقط ، على ما كانت تأمر به الشريعة ( تثنية الاشتراع 14: 22 ) . وفضلاً عن ذلك كان يصوم فى الأسبوع مرتين : يومي الاثنين والخميس وفقاً لتقليد قديم، بيد أن الشريعة كانت تلزم بالصوم مرة واحدة في السنة. ترى هل يطلب منه الله أكثر مما يحمّل نفسه من ضروب المعاناة ؟ وهل باستطاعته أن يطلب منه فوق ما يعمل ؟ وكأن الأدوار والموازين انقلبت، فبدلاً من أن يشكر الله، بات لزاماً على الله أن يشكره لما يقوم به من مآثر . لله ما أبغض الكبرياء !.
وفيما كان الفريسي يفاخر لله والناس بمكرماته. كان العشار يقف بعيدا في إحدى زوايا رواق الهيكل ولا يجرؤ على رفع عينيه إلى السماء حيث تتجه كل صلاته. وكانت صلاته تقتصر على عبارة واحدة ما ملّ لسانه تردادها وهي : ” اللهم ارحمني أنا الخاطئ ” كان الله نصب عينيه وذكره دائماً على لسانه ، وكان شقاؤه يثير عواطف التوبة والندم في صدره . واعترف بانه خاطىء . وراح يقرع صدره ندماً وحسرةً على إغاظته ربه . لا تبجح بأعمال تقى، لا مباهاة بزكاة ، لا مفاخرة بصوم ، لا استعلاء على الناس ، لا منّه على الله. بل صلاة ثقة وخشوع وتواضع عميق ، وندم خالص و انسحاق قلب صادق ، ورهبة في حضرة الله، وإقرار بحاجته إلى عطفه ورحمته. وأما الباقي فيعرفه الله ولن يبخل عليه به.
٣ – الأمثولة:
راقب السيد المسيح كلا الرجلين وأصدر الحكم القاطع فانقلبت معه المقاييس. ما كل فريسي بار ولا كل عشّار خاطئ مرذول . ليست القضية قضية طبقة اجتماعية بل قضية أشخاص ، والمقابلة بين الرجلين تظهر ضلال الرأي العام وصواب رأي السيد المسيح في هذا المجال . كان الفريسي في عين الشرع مبروراً والعشار سارقاً . كان الأول في نظر الناس نقياً والثانى رجساً. اطمأن الفريسي إلى حالته فلم تتحرك في قلبه عاطفة ندم، وقلق العشار على مصيره فتاب واستغفر. وهذا هو المهم . هذا هو العالم الجديد الذي دشّنه السيد المسيح . فحكم على الفريسى لاطمئنانه المزيف ، وبرّأ العشار لقلقه الخلاصي . وصدر حكمه ولم يخشىَ من يقوّض به الأحكام الخاطئة ولو كلفه ذلك حياته فقال : ” أقول لكم : ان هذا نزل إلى بيته مبروراً وأما ذاك فلا “.
اللهم ارحمنا نحن الخطأة وأعطنا ان نكون مبرّرين في عينيك ونبقى في ظلِّ رحمتك وحمايتك .