وكان تلاميذ يوحنا والفريسيون صائمين ، فأتاه بعض الناس وقالوا له : ” لماذا يصوم تلاميذ يوحنا وتلاميذ الفريسين ، وتلاميذك لا يصومون ؟ ”
نجد أنفسنا في بداية النص أمام السؤال الموجه إلى يسوع حول تصرفات تلاميذه ، وكأنه مسئول عن كل ما يفعلون . ونجد هنا مقارنة بين تلاميذ يسوع وصومهم مِن جهة ، وبين تلاميذ يوحنا والفريسيين مِن جهة أخرى ، الذين يصومون مرتين في الأسبوع كتعبير عن غيرتهم المتَّقدة لحفظ الشريعة .
كان الصيام إلزامياً في إسرائيل يوماً واحداً في السنة ، في يوم التطهير الغفران . وكانت بعض المجموعات تُمارس الصوم بشكل اختياري يومين أو ثلاثة في الأسبوع . ومِن المحتمل أنْ يكون تلاميذ يوحنا المعمدان يعيشون حياة تقشف على مثال معلمه م، الذي نجده في الإنجيل يكتفي بما هو ضروري، محاولاً عيش الصوم حسب العهد القديم ، أي كسبيل للالتقاء بالرب . كذلك كان تلاميذ السيد المسيح يتبعون أسلوب حياة معلّمهم ، مما دفع الآخرين إلى انتقادهم ، وبشكل غير مباشر إلى الشك في تعاليم يسوع نفسه . إذ نعتوه بالأكول والشريب .
فقال لهم يسوع : ” أيستطيع أهل العرس أنْ يصوموا والعريس بينه م؟ فما دام العريس بينهم لا يستطيعون أنْ يصوموا . ولكن ستأتي أيام فيها يُرفع العريس مِن بينهم . فعندئذٍ يصومون في ذلك اليوم .
يجيب يسوع على السؤال ويوضح موقف تلاميذه عن طريق سؤال آخر : ” أيستطيع أهل العرس أنْ يصوموا والعريس بينهم ؟ الآية 19 . إنَّ هذا التساؤل يحمل الجواب في ثناياه : فالمدعوون إلى عرس لا يستطيعون أنْ يصوموا ، كون الصوم والعرس أمران متناقضان . وعبارة العريس بينهم ، تبرِّر تلاميذه . فهو السبب في عدم صوم تلاميذه ، لأنه ما يزال معهم بشخصيته ورسالته . ولقب عريس الذي يستخدمه يسوع وينسبه لنفسه يعود إلى عهد الله مع شعبه ، والذي يُشبَّه بالعرس . وسيبقى الله أميناً لعهده بالرغم مِن خيانات شعبه الكثيرة . إنَّ يسوع يتمِّم عهد عرس الله مع الإنسانية ويضع نفسه بداية لعرس الخلاص .
انطلاقاً مِن هذا المعنى فإنَّ وجود يسوع حامل الخلاص يعفي التلاميذ مِن الصوم : فهُم بالواقع مدعوون لعيش صوم غير مرتبط بأي وقت ( كما كان يفعل العبرانيون ، أو إلى صوم خلاصي كما هو الحال عند تلاميذ المعمدان ) ، وإنما إلى استقبال حقيقة العريس أي المسيح الذي مِن خلال أعماله يعني بدايةً لعهد الخلاص . إنَّ وليمة العرس التي هي صورة زمن الخلاص تعفي التلاميذ مِن الصوم كونهم مشاركين بطريقةٍ كاملة في هذا العيد . وبالتالي فإنَّ التركيز هنا ليس على الصوم وإنما على بداية العهد الجديد مِن خلال السيد المسيح ، وعلى عهد الخلاص المتمثل بالعهد المسيحاني . إنَّ صورة العرس في العهد القديم مستعملة بكثرة للتعبيرعن هذا العهد : وقد استعملها السيد المسيح ليشير إلى أنَّ وجوده هو علامة هذا العهد ، وبالتالي فإنَّ تلاميذه يجب أنْ يكونوا سعداء ما دام يسوع بينهم .
مِن هنا تُعتبر مخالفة تلاميذ السيد المسيح لقانون الصوم علامة نبوية ، وهي تعبير عن قدوم وبداية العهد المسيحاني . كما أنَّ عبارة ” يُرفع العريس مِن بينهم ” الآية 20 ، تشير إلى موت المسيح وإلى وقت غيابه . على كل حال فإنَّ التركيز هنا هو على العريس الذي يشع فرحه على كل مَن هو قريب منه .
يهدف هذا النص الإنجيلي أولاً ، أنْ يعي المؤمن لحضور الله في داخل التاريخ ، وهو مدعو إلى العيش في جوٍ مِن السلام والسعادة التي هي ليست ثمرة شعور إنساني محض ، بل نتيجة الاقتناع أنَّ الله لا يترك الحياة البشرية تسير على هواها معتمدةً على قواها الذاتية أي على الميل إلى السهولة والانهزام . فواجبنا هو ربط حياتنا دائماً بأساسها الحقيقي ، لكي نكتشف السعادة الفائقة التي يجب أنْ تميز شهادتنا . لا يكن فرحنا عبارة عن عاطفة عابرة ، بل نتيجة اتباع يسوع ، فهوإ عطية مِن الله تؤكد وجوده معنا .
طبعاً لا نسطيع أنْ نستثني مِن هذه السعادة التعب وجهد الالتزام ، ولكن حتى في هذه الحالات تُعاش السعادة مِن خلال المشاركة العميقة مع الل ه. وهنا علينا أنْ نعكس المفهوم : نحن لا نمتلك الفرح ، وإنما فرح الإنجيل هو الذي يمتلكنا كونه هو البشرى السارة . وعلينا أنْ نعتبر أنفسنا شهادة الفرح في تاريخ البشر، فنصبح بذلك إنجيل فرح . إنه فرح متواضع يعيش في هدوء الحياة اليومية ويؤثر فيها : إنه اليقين بالإيمان المتجسد ، والثقة بالله الأمين دائماً في وعوده . الخطر هنا هو أنْ لا نعيش هذا الفرح لأننا معرَّضون إلى أنْ ننسى الأفق الذي يتدخل مِن خلاله الله تعالى في تاريخنا . ويمكن أنْ يكون إيماننا نظرياً ، كوننا نتعلق بما هو محسوس أكثر مِن تعلقنا بالكلمة التي تحققت في حياة التلاميذ وفي مسيرتهم الإيمانية . إنَّ الأيمان بكلمة الله ، وإنه أمين في وعوده ، هو القوة التي تُثبَّتنا في اتباع يسوع .
مِن جهة أخرى فإنَّ مناخ الفرح والثقة هذا يُساعدنا على قراءة علامات الأزمنة في حياتنا ، ولو بشكلٍ جزئي ، والوقوف على الأعمال التي مِن خلالها يغيِّر الله حياتنا . علينا أنْ نُنَمِّيَ في أنفسنا الشجاعة على الخروج مِن عنف الأشياء والتركيز على جوهر الحياة ، وأنْ نتعلم كيف نُميِّز ونقرأ العلامات التي تٌقَدَّم لنا : إنَّ الإنسان الذي يحسن التحاور هو الإنسان الذي يقدِّر مجانية وجود الآخر في حياته . عندما ينضج في الإنسان معنى المجانية فإنه يستطيع أنْ يندهش أمام ما هو جديد ، وتولَد في داخله اللهفة إلى الحياة بفرح وهدوء .
وهناك موقف آخر نستطيع أنْ نستخلصه وهو الجرأة في ترك الطرق التديّن القديم التي مِن خلالها ندافع عن أنفسنا مِن واقع الحياة ، ونظن أننا نعرف مسبقاً كيف يعمل الله وما هي متطلباته . إنَّ مِثل هذه الطرق تُعيقنا مِن فهم الأمور الجديدة ، والتي يمكن أنْ تدهشنا ، مِن خلال أعمال الرب . يكمن الخطر في اعتقادنا الخاطئ أننا نعرف كل شيء عن الله وعن الحياة ، وننسى أنَّ الله لا يمكن أنْ تحتويه الأطر البشرية الضيّقة . قبل أنْ نفكر في نقل الرسالة علينا أنْ نجعل مِن حياتنا نفسها كلمة تصل إلى الآخرين . إنَّ السيد المسيح أعطى نفسه مِن خلال اللقاء مع الآخرين ، وذلك مِن خلال حركات معبرة ، وخصوصاً مِن خلال حركات إنسانية حقيقية كونها تعبِّر عن شخصية السيد المسيح نفسها . علينا أنْ نضع الآخرين في وضع يسمح لهم برؤية ما نحن عليه ، أو بالأحرى برؤية ما هو الله مِن خلال ما نحن عليه . المطلوب أيضاً هو أنْ نساعد أنفسنا والأشخاص التي تقترب منا على الدخول في سِر المحبة ، مِن خلال حركات إنسانية تُجسِّد هذا السر .
الموقف الأخير المعروض علينا هو أنْ ننظر إلى الواقع بنفس المحبة والثقة التي مِن خلالها ينظر الله إليها مِن خلال ابنه يسوع المسيح ، مفيضاً عليها تعاطفاً عميقاً يتأتى مِن اليقين أنَّ الرب يعمل بلا تعب ولا توقف مِن خلال وجود الروح القدس غير المنظور. إنَّ التعاطف هو القناة الوحيدة التي مِن خلالها نرى خلاص الشخص الآخر : إنَّ الحوار مع الحياة ومع الأشخاص الذين نقابلهم يتطلب منا أنْ نطوّرَ موقفاً جاداً مِن التعاطف ، ومِن الانفتاح الأصيل .
إنَّ الدعوة الموجهه إلينا في هذا الصدد والتي تُلخص كل ما قلناه هي أنْ نتعلم كيف نكون أكثر إنسانية ، لأن الإنسانية هي العلامة المحسوسة التي يعمل الله يعمل مِن خلالها في التاريخ . إنَّ التعلم على أعمال التقارب والانتباه والحوار والاستقبال والانفتاح ضروري ومهم ، لأن الإنسانية هي المساحة التي تسمح لإنسان اليوم أنْ يكتشف عمل الله المجاني وغير المتوقع . تعلمنا الخبرة أنه في كل مَرة قمنا بمقابلة أشخاص ممتلئين مِن الإنسانية ، شعرنا بنبض الإنسانية يصل إلى قلبنا . وهكذا نعي أنَّ الإنسانية لا تعني تقييد الآخر بحركات إنسانية ، بل إدخال الشخص الذي ندخل معه في حوار في ما يشكِّل جوهر الوجود الإنساني ، أي قوة حُب الله المجانية .