نشرتْ صحيفة القاهرة (28/5/2013) مقالا بعنوان (هل يوجد ما يُسمى منظور اسلامى لعلم الآثار؟) للأستاذ خالد عزب شغل أكثر من 90% من مساحة الصفحة.
قرأتُ المقال فإذا به دفاع عن العروبة والإسلام (وهذا حق الكاتب) ولكن ما علاقته بعلم الآثار؟ ذكر الكاتب أنّ البعض (اتخذ المنهج الغربي في دراسة الآثار والنظر إليها فعظمها ومجّدها دون أنْ ينتقد الانحراف العقائدي لدى الأمم السابقة) ولأنّ الأيديولوجيا سابقة التجهيز آفة تنخر عقل أي باحث، تجاهل ما ذكره في تعريفه لعلم الآثار إذْ ذكر أنه (علم الوفاء للقديم والحرص على تتبع مسيرة التطور التي سلكتها الحضارة البشرية في عصورها الماضية. واستخلاص القيم الثقافية والعلمية والجمالية من كل ما أبدعته قرائح الإنسان.. تجسيدًا لمعتقداته. ويدرس الآثار لذاتها.. بلسان أهلها وزمانها إيجابًا وسلبًا ولا تنفصل عن كيانهم في الزمان والمكان والتأمل والخيال)
فهذا التعريف العلمى يهدم ما ذكره عن (الانحراف العقائدي لدى الأمم السابقة) وجاء الهدم بمعول (المازورة) التي وضعها الكاتب لعلم الآثار بحيث تأتى متطابقة لما ورد في القرآن.
وبنص كلماته (حفلتْ الدراسات الأثرية بالعديد من الرؤى لنشأة الكون بعضها يتفق مع ما ورد فى القرآن الكريم والأحاديث النبوية) وبعد أنْ ذكر أنّ إله الكون في النصوص المصرية خلق نفسه بنفسه دون أب أو أم إلخ كتب (أليستْ هذه الصفات تـُذكرنا بسورة الإخلاص (قل هو الله أحد) لينتهى إلى القول إلى أنّ (هذه الدراسات فى حاجة إلى مزيد من البحث عن إله الكون عند المصريين القدماء والعراقيين. والبحث سيتركز على تخليص الدراسات الأثرية من الانحرافات العقائدية التي شابتْ الديانات القديمة) و(الانحرافات العقائدية) موجودة على بردية أو جداريه،
إذن فالمطلوب من الباحث التدخل فى (متن) الأثر كي يُخلصه من الانحرافات ويأتي متطابقـًا مع (مازوة) الإسلام، لأنّ الكاتب كتب (تـُشير العديد من الدلائل الأثرية إلى معرفة قدماء المصريين للتوحيد.. لكن يبدو أنّ المصريين حرّفوا الديانة السماوية التى كان يؤمن بها أبو البشر آدم فلم يكتفوا باسم واحد للخالق إلخ) وهذا الكلام إنْ جاز فى كتب التوعية الإسلامية، إلاّ أنه لا علاقة له بلغة العلم، لأنه أضاف (فالأصل عند المصريين القدماء هو تعدد الآلهة.. على العكس مما نراه لأننا نؤمن بالواحد القهار) كلام لا لبس ولا غموض فيه أننا إزاء شيخ فى جامع وليس باحث فى محراب العلم.
وأسعدني أنّ الكاتب لا يُخفى توجهه الأيديولوجي، فهو ينتقل من علم الآثار إلى نقد نظرية التطور الطبيعي للكائنات الحية فبدأ فقرته هكذا (ينظر المسلمون إلى الإنسان ككائن حي ميّزه الله على سائر البشر) ويبدو أنّ اللغة الدينية أعمته عن التناقض الذى وقع فيه: أليس الإنسان من بنى البشر؟ ثم ما علاقة هذا الكلام بعلم الآثار؟ وأسعدنى أيضا أنه لا يُخفى توجهه العروبى (وهذا حقه) عندما كتب بلغة العاطفة التي تزاوج فيها ما هو عروبى بما هو إسلامى عندما ذكر أنّ اللغة العربية (ليست من اللغات التى نشأتْ من اختلاط الإنسان بالمحيط الذي يعيش فيه. فهى ليستْ مأخوذة من أصوات الحيوانات والعالم المحيط المتحرك لأنها لغة الله. وأولى اللغات وأولها استعمالا على وجه البسيطة ثم انتشرتْ مع نزول آدم وحواء من الجنة)
فى هذه الفقرة اعتراف صريح بأنّ اللغة الحية هي التي نشأتْ (من اختلاط الإنسان بالمحيط الذي تعيش فيه) وهو ما فعله جدودنا عندما رسموا على الجداريات بعض الطيور كرموز للغة. وبفضل قدرة الفنان المصري على التشكيل رسم الصقر كرمز الحرف a الذي هو النسق الأبجدي اللاتيني وهو منحدر عن ال الألف اليوناني القديم a عن نظيره الفينيقى a وهذه جميعها عن الحرف الأول المناظر في الهيروغليفية ويمثله الصقر المصري المعروف باسم الرخم (بيومى قنديل- حاضرالثقافة فى مصر- ط4ص172)
وكيف تكون اللغة العربية أولى اللغات، فى حين أنّ النقش الذي عثر عليه العالم الفرنسي Dussoud على قبر الملك أمرىء القيس (382- 403م) ثاني ملوك الحيرة وجد المناذرة وقبره فى (المنارة) أو إنماره الواقعة فى الحرة شرق جبل الدروز. ولم يكن ذاك النقش بخط مشتق من المسند بل بقلم متأثر بالقلم النبطى. وبتلك الحروف أو حروف مشابهة كـُتب المصحف العثماني.
وذكر د. جواد على ((لم ترد كلمة عرب فى النصوص العربية الجنوبية بمعنى (العرب) أى القومية الخاصة التي تشمل أهل الوبر والمدر وجميع سكان شبه الجزيرة. وليست لدينا نصوص ورد فيها اسم (العرب) غير النص الذي يعود إلى امرىء القيس بن عمرو. غير أننا لا نستطيع الجزم بأنه قصد من (العرب) المعنى المفهوم من هذه الكلمة الآن بل قصد بها (الأعراب) الذين كانوا فى البادية على نحو ما يقوله أهل الحضر عن أهل الوبر. والنص الوحيد الذى لا يمكن أنْ يشك في صحته إنسان هو القرآن ، فهو أول نص فى العربية لا يعلق به غبار الشكوك))
وبعد أنْ نقل آراء كثيرين من العلماء عن الخط العربى كتب ((يظهر من هذه الروايات أنّ علماء العربية ذهبوا إلى أنّ الخط (العربى) لم يكن أصيلا فى الحجاز، وإنما دخله من اليمن أو العراق أو من أرض مدين.. وذلك يدل على أنّ كتابة الخط العربى الشمالى قد اقتبست خطها من الخط النبطى المتأخر الذى كان يستعمله النبط)) وانتقلتْ حروف الذال والثاء والغين والضاد وأفعل تفضيل من القلم اللحيانى. ولا أذيع سرًا إذا قلتُ أنّ سكان البلاد العربية كانوا يتكلمون بلغات عديدة ولهجات كثيرة.. وأنّ أبا عمر بن العلاء قال ((ما لسان حمير بلساننا ولا لغتهم بلغتنا) وقال العلامة اللغوي الكبير ابن جنى (لسنا نشك فى بـُعد لغة حمير ونحوها عن لغة ابنى نزار) (د. جواد على- تاريخ العرب قبل الإسلام-ج1- أكثرمن صفحة)
وبينما يرفض أ.عزب اعتبار اللغة العربية ضمن المجموعة السامية، فإنّ د. جواد على يراها (اللغة الكبرى التى تمثل المجموعة اللغوية السامية)) واقترح استخدام مصطلح (العربية) بدلا من (السامية) لنقترب نحو العلم ونبتعد عن الأساطير، أى انحدار الساميين من صلب رجل هو سام.
فحرى بالعلم أنْ يبنى أحكامه على حقائق علمية وأنْ يبتعد عن الأساطير) (ج2ص 288) وذكر أنه فى النقوش القديمة السابقة على الإسلام إله اسمه (سميع) وهو(من أصنام العرب الجنوبيين) وعن الكتابة الموجودة على قبر الملك امرىء القيس (328ب.م) ذكر أنّ لغة النص قريبة من لغة القرآن الكريم. وهو نص مهم لدراسة اللهجات العربية قبل الإسلام لأنه نموذج من نماذج هذه اللغة قبل ميلاد الرسول بنحو242سنة. خاصة وقد تبيّن أنْ (كان للعرب الشماليين لسانان: لسان تدوين بالآرامية. ولسان بيان باللهجات القبلية المحلية) وبلغة العالم كتب ((أرجو أنْ يأتي يوم يتوفر فيه علماء اللغة العربية للمقابلة بين اللهجات العربية القديمة وبين اللهجة التي نزل بها القرآن الكريم. فلهذه المقابلات أهمية كبيرة فى معرفة تطور اللغة العربية وتدرج نموها قبل وبعد الإسلام. وهو تطور لم يُدرس دراسة حديثة حتى الآن)) (ج4 من ص426- 441)
ود. جواد على (عراقي، ومدافع عن اللغة العربية وعن الإسلام) إلاّ أنه يحترم لغة العلم لذا كتب (من العلماء من يرى أنّ الأبجدية الأولى هى وليدة الهيروغليفية. (وآخرين) أخذوا من المصريين فكرة التدوين والاختزال كما اختزل الكـُتاب المصريون الذين ابتكروا الهيروغليفية كتابتهم من الكتابة الصورية التي كانت تـُعبّر عن معانٍ، أوجدوا منها المقاطع التي سهـّلتْ أمر أداء المعاني والقراءة تسهيلا كبيرًا، فكان المصريون أول من علم البشر نظرية التدوين وفكرة الإشارة إلى المعاني ومقاطع الكلمات، فاختزل مبتكرو الأبجدية الكتابة الهيروغليفية، وأوجدوا من المقاطع حروفـًا كوّنت الأبجدية الأولى، الأبجدية التى أصبحتْ نموذجًا لسائر الأبجديات، فمنهم من تقيّد بها وحافظ على الشكل الأصلي للحروف كما وُضعت في الأصل، ومنهم من غيّر فيها وحرّف، ومنهم من أضاف إليها أو نقص منها، وبالجملة- لما كان الفضل للسابق- فإنّ فضل نشوء فكرة التدوين عند البشر يرجع إلى المصريين)) (ج1ص203)
وإذا كانت اللغة العربية هى أصل كل اللغات كما يقول أ. عزب والليبى خشيم، فلماذا لم يكن بينها فعل مساعد مثل الفعل (قام) فى اللغة المصرية؟ مثال (قام الجيش المصرى بهدم الأنفاق الحمساوية التى تـُهدّد أمن مصر) أو(قامت وزارة العدل بإعداد مشروع قانون كذا) وفى جنوب مصر يقولون (جا يقف قام وقع) والفعل المساعد (قام) موجود فى لغتنا المصرية الحديثة لسبب بسيط أنه استمرار لذات الظاهرة اللغوية فى اللغة القبطية حسب دراسة عالم اللغويات (فيرنر فيسيكل) (بيومى قنديل- مصدرسابق- ص258)
أعجبنى عنوان المقال لأنه طرح قضية مهمة: هل يجوز النظر إلى علم الآثار من منظور دينى؟ أم أنّ مهمة الأثري اكتشاف ما تركته الشعوب من آثار؟ وأنّ تلك الآثار- بعد تأمل أشكالها وقراءة المُدوّن عليها- تساعد على كشف ثقافة ذاك المجتمع ومعتقداته وأنساق قيمه بغض النظر عن ميول الباحث أو مُكتشف الأثر، ولذلك نجح العلماء الأوروبيون فى ترسيخ هذا العلم الذى نفض غبار الزمن عن تراث الشعوب. وبينما أعجبني العنوان جاء المقال ضد لغة العلم وتناول موضوعات لا علاقة لها بعلم الآثار، مثل دفاعه عن العروبة والإسلام ونقده لنظرية التطور الطبيعى.