السلفية مسألة عامة، قد نجدها فى كل المجتمعات وعبر التاريخ، فلا يوجد مجتمع أو جماعة لا ترتبط بماضيها وأسلافها، ولكن عندما ترتبط السلفية بالإسلام (السلفية الإسلامية) يكون لها معنى خاص. وعلى حسب علمى، وربما أكون مخطئا، فإن كلمة “سلفى” ليس لها ترجمة فهى تترجم للإنجليزية كما هى Salafi ولا تعبر عنها مرادفات إنجليزية مثل Ancestry. إن خصوصية حالة السلفية الإسلامية لا تنبع من أن لها معنى واحد على الرغم من أنها تحيل إلى “السلف الصالح” وتدعو للإقتداء بهم، فمنها ما هو روحى إيمانى، وهذا شائع لدى عامة المسلمين، ومنها ما هو سياسى أيديولوجى، وهذا شائع بين الجماعات الجهادية وجماعات الإسلام السياسى. وبشكل عام فإن المعنى الثانى (السياسى الأيديولوجى) هو المهيمن والمسيطر، ولأنها كذلك، فإنها لا تكتفى، بفكرة الحنين إلى الماضى أو التواصل معه روحيا أو حتى فكريا، بل تجاهد هذه الجماعات، بالمعنى السياسى، لكى تجعل الحاضر ماضيا، والماضى حاضرا. إنه استدعاء خاص للماضى بطريقة تغيب الماضى بتأويلات مبتسرة، وتهدر الحاضر بالعمى عن شروطه. وهنا تحديدا مأزق الإسلام السياسى، إما أن يكون خارج التاريخ، وإما أن يتمسح فى التاريخ بمشاريع مبهمة مثل “مشروع النهضة”.
وفى الحقيقة أن الجماعات الجهادية السلفية تتسم بدرجة كبيرة من الشفافية، وذلك عندما تعلن صراحة رفضها للحاضر والإحالة إلى الماضى، بغض النظر عن الكيفية التى ترى الماضى من خلالها. ولكن هذا يختلف عن موقف جماعة الإخوان المسلمين والتى أسست مشروعيتها استنادا إلى الماضى، وفجأة وبدون أن تتوقع وجدت نفسها فى موقع يضعها مباشرة أمام شروط الحاضر بتحدياته السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية. وهكذا أُجبرت الجماعة أن تخاطب واقعا بلغة غير تلك التى اعتادت عليها، وغير تلك التى حافظت على تماسكها، فما كان عليها إلا أن تخفى شعارها الرئيسى “الإسلام هو الحل”، وترفع شعار غير أصيل فى خطابها وهو “مشروع النهضة”. إن الشعار البديل “مشروع النهضة” لا يعنى مشروعا ولا يعنى نهضة، وإنما جاء كمحاولة لرأب الصدع بين الجماعة والحاضر، أو بمعنى آخر محاولة “لغوية” للإنتماء للحاضر. وأتصور أن الجماعة فى مأزق حقيقى، فشعار “الإسلام هو الحل” كان بسيطا ويصلح للتعبئة والحشد بما أنه يعد بالماضى والأصول. ولم يكن مطلوبا من قيادات الجماعة شرح هذا الشعار لأنه مكتفى بذاته، فهو ما يضفى المشروعية على قيادات الجماعة وليس العكس. أما مصطلح “النهضة” فليس له أى معنى مقدس، بل على العكس فقد يعنى القطيعة مع الماضى، والإرتباط بحداثة كونية. وكل المؤشرات الواقعية تؤكد أن الجماعة لم تنجح فى ترجمة شعارها إلى سياسيات عملية لحل مشكلات واقعية.
ولهذا السبب فقد تدخل الجماعة فى مأزق هوية، وخاصة وأن التجارب الفعلية للحكم الدينى لا تقدم ما يقنع أى أحد بأنها تجارب يجب أن تُحتذى، إلا بالنسبة للسلفية الجهادية بالطبع. فليس ثمة نموذج فعلى يمكن للجماعة أن تقتدى به ليخرجها من مأزقها ويحافظ على لحمتها. وفى الوقت ذاته، ليس فى مقدورها تبنى مشروع حداثى فعلى، لأنها إن فعلت ستنهى ذاتها كجماعة. وكان الحل بالنسبة للجماعة ليس فى الإسلام ولكن فى تبنى خطاب سياسى مراوغ يتضمن عدد كبير من الخطابات الفرعية، فجاء المنتج خليطا عشوائيا من اللغة السلفية والحداثية.
ويبقى القول إن من حق أى جماعة أن تنتمى للحاضر أو للماضى، ولكن ليس من حقها أن تصادر الماضى وتحتكره، كما ليس من حقها أن تصادر الحاضر وتحتكره. وللأسف فإن الإسلام السياسى فعل ذلك، عندما ظن أنه يحتكر الماضى، وعندما يظن أنه يحتكر الحاضر.