بمناسبة النزاع الدائر الآن الخاص بالسلطة القضائية، أذكر أن الكاتب والمفكر الكبير سلامة موسى كتب افتتاحية العدد الثامن من مجلته (المصري)، 23 أكتوبر 1930م، تحت عنوان “كلمة في القضاء”. أكد في مقاله على سمو مكانة القضاء في أية أمة متمدنة، ومُشيراً إلى ضرورة احترام القضاء واستقلاله، وقال أن القاضي هو ضمير الأمة، موضحاً خطورة أن تقوم الحكومة برشوة القاضي أو تهديده وهو يمارس مهنته، ذلك أن القاضي متى حاد عن طريقه فإن هذا يمثل خطراً على الحكومة والأمة على السواء.
قال سلامة موسى- والذي يصح كلامه اليوم:
يمثل القضاء في الأمة ضميرها العادل وعناصرها السامية التي تريد أن تنتصر على عناصرها السيئة. فإذا فسد هذا الضمير فإن الأمة كلها تفسد وإذا ارتشى القاضي عن العدل أو هدد بالعقاب من أجل نزاهته فإن الفوضى تشمل الأمة كلها موظفها وتاجرها وزارعها وصانعها وتزول عندئذ من الأفراد صفات الهيبة والوقار كما تزول أيضاً من الحكومة والقضاء صفات الكرامة والحرمة. وعندئذ لا تكون العلاقة بين الاثنين علاقة الاحترام المتبادل وإنما علاقة الاستهزاء والتهكم.
وليس شىء أخطر على الحكومة والأمة من هذه العلاقة. لأننا في هذه الحال نستهين بالدين وسننه كما نستبيح المحرمات ولا نبالي بالغش والخداع يدخلان في علاقة الابن بأبيه والزوج بزوجته. لأن القاضي المرتشي هو الميزان المختل وقدوة السوء لكل فرد في الأمة. وأكبر حكومة مجرمة في العالم تستحق المحق والمحو هي تلك التي ترشو القاضي عن العدل أو تهدده عن واجبه في نزاهة الحكم.
وهذا الذي نقوله تعرفه كل أمة متمدنة بل هي متمدنة لأنها تعرفه. فإن القراء يذكرون أن حكومة العمال السابقة للحكومة الحاضرة في بريطانيا قد سقطت لأن المحافظين اتهموها بالتدخل في القضاء بالإيعاز إلى النائب العمومي بأن يتغاضى عن واجبه. وسقطت الحكومة في ذلك الوقت لا لأن التهمة ثبتت عليها بل لأن الشبهة لحقت بها.
فهذه حادثة قريبة منا يجب أن نعرف منها قيمة استقلال القضاء ونمنع عنه تدخل الموظفين. ولكن هناك حوادث أخرى يجب أن نذكرها على الدوام إذا كنا نريد أن نكون أمة متمدنة لنا دولة متمدنة.
فمن ذلك مثلاً حادثة المحكمة العليا فى واشنطن منذ سنة. فإن القارئ يذكر أن إحدى الولايات المتحدة وهى ولاية تنسى فصلت أحد المعلمين من مدرسته لأنه كان يعلم للتلاميذ نظرية داروين عن التطور بدلاً من يعلمهم سفر التكوين وقصة آدم وحواء. وقد قاضى هذا المعلم رؤساءه الذين فصلوه في محاكم هذه الولاية فحكمت عليه فاستأنف الحكم في المحكمة العليا في واشنطن فحكمت هذه المحكمة بأنه ليس للولاية مع استقلالها الداخلي وحقها
في التشريع أن تسن قانوناً أي قانون يكون من شأنه تقييد الحرية الفكرية. وبذلك حكم للمعلم على الولاية.
وقد يبدو هذا الحكم صغير القيمة. ولكن يجب على القارئ أن يذكر أن “الولاية” في الولايات المتحدة ليست ولاية في حقيقتها وإنما هي “دولة” مستقلة لها برلمانها الذي يسن القوانين. ومع ذلك فقد حكمت عليها هذه المحكمة وقيدت حقها في التشريع لأنها رأت أن البرلمان نفسه لا يحق له تقييد الحرية الفكرية.
ولنضرب مثلاً ثالثاً لكي يقف القارئ على قيمة القضاء عند الأمة المتمدنة. فمن المعروف أن أول أمة ألغت الرق من العالم هي إنجلترا. وهى لم تلغه بقانون سنته لهذه الغاية وإنما ألغته بحكم محكمة. وذلك أنه حدث فى أحد الأيام أن أبق عبد ورفض الرجوع إلى منزل مولاه فطلب هذا من المحكمة رد العبد. وكان اللورد مانسفيلد هو القاضي الذي ينظر هذه القضية فرأى أن الفرصة سانحة لأن ينقل النوع البشرى درجة إلى الأمام ويسير به نحو الحرية فحكم بأن الإنسان لا يمكن أن يكون عبداً وأن الرق فى بريطانيا العظمى غير مشروع.
ومعنى ذلك أن القاضي جعل نفسه أداة للإنسانية وحكم حكماً له قيمة القوانين وكانت نتيجة هذا الحكم أن خسر آلاف من الإنجليز عبيدهم. فلم تعترض الحكومة البريطانية على هذا القاضي ولم تفصله من محكمته بل خضعت لحكمه.
إن المحكمة موئل العدالة فيجب أن ندخلها خاشعين كما ندخل المسجد أو الكنيسة ويجب أن ننظر إلى القاضي كما ننظر لرجل الدين الأمين على الفضائل. ولكن كيف يمكننا أن نخشع للمحكمة أو نرعى للقاضي حرمة وكرامة إذا كنا نعرف أن الحكومة ترشوه عن العدل أو تهدده عنه؟.
وأخيراً نعود فنكرر أن أكبر حكومة مجرمة في العالم تستحق المحق والمحو هي تلك التي ترشو القاضي عن العدل أو تهدده عن واجبه في نزاهة الحكم.