ما من منطقة في السودان اكتسبت شهرة إقليمية وعالمية مثل دارفور خلال العقد الماضي; وذلك بسبب الحرب الأهلية التي تدور رحاها هناك وبسبب الاهتمام الذي أولاه الإعلام العالمي لها حتي بات يتحدث عنها أناس في شتي أنحاء
ما من منطقة في السودان اكتسبت شهرة إقليمية وعالمية مثل دارفور خلال العقد الماضي; وذلك بسبب الحرب الأهلية التي تدور رحاها هناك وبسبب الاهتمام الذي أولاه الإعلام العالمي لها حتي بات يتحدث عنها أناس في شتي أنحاء العالم وهم يجهلون حتي موقعها في الخريطة.
ورغم هذا الاهتمام العالمي فإن أزمة دارفور ما زالت تراوح مكانها وتستعصي علي الحل الذي يتقبله كل أطراف الصراع وما زالت القضية تتجول بين العواصم الدولية والإقليمية بحثا عن حل شامل ما زال بعيد المنال, ورغم أن حدة القتال الضاري قد هدأت كثيرا فإن الانفلات الأمني والصراعات الدامية المنقطعة ما زالت حدثا يوميا, وبين حين وآخر تعود أخبار دارفور لتحتل الصدارة في أجهزة العالم كما حدث الأسبوع الماضي.
الأسبوع الماضي شهد حدثين ارتبطا بهذه االقضية بصورة أو بأخري: الحدث الأول هو القرار الصادر من مجلس الأمن بتمديد فترة بقاء قوات حفظ الأمن الإقليمية الدولية في الإقليم باعتبار أنها عملية مشتركة بين الاتحاد الإفريقي والأمم المتحدة والتي تعرف اختصارا باسم (اليونميد) لمدة عام آخر مع تخفيض عدد القوات العاملة في إطار هذه القوة من حوالي عشرين ألف عنصر إلي سبعة عشر ألفا.
يبدو أن الثنائية باتت قدرا يلازم السودان فحينما كان مستعمرة رفرف في سمائه علمان لدولتين مستعمرتين: العلم المصري والعلم البريطاني, والآن تحفظ السلام فيه قوة ثنائية إفريقية أممية, لكنها قوة لا يحس أحد بوجودها ولم تستطع أن تحفظ أمنا ولا أن تحقق استقرارا بل وفشلت في أن تحمي أفرادها الذين تعرضوا للقتل والاختطاف, والأموال التي صرفت عليها كان من الممكن أن تحل أزمة دارفور لو صرفت في تنمية المنطقة. وبالأمس مددوا لها عاما آخر واعتمدوا لها مليارات الدولارات لتصرف علي (نشاطها) غير الملحوظ في دارفور!
أما الحدث الثاني الذي يعكس حالة الاحتقان في هذا الإقليم فهو مقتل ثمانية أشخاص وإصابة أكثر من عشرين خلال مظاهرات احتجاجية وقعت في مدينة نيالا يوم الثلاثاء الماضي قادها طلاب يحتجون علي غلاء الأسعار, وقد شهدت العاصمة ومدن أخري احتجاجات مماثلة لكن لم يسقط فيها قتلي, وانفردت دارفور بهذا الحدث لأنها تعيش في حالة احتقان عالية وثقافة عنف تواترت.
قضية دارفور تعتبر مؤشرا مهما لحالة الاحتقان التي تعيشها أنحاء عديدة من السودان مع تنامي الإحساس لدي مجموعات عديدة من أهل السودان بأنهم يفتقدون العدل والإنصاف في دولتهم, وأنهم لا يتمتعون بكامل حقوق المواطنة في التنمية والخدمات ولا يشاركون في صنع القرار وأنهم تحولوا من مواطنين إلي رعايا, ولم يعد هذا الإحساس (بالتهميش) جهويا فالمرء قد يحس به وهو يعيش في العاصمة لأنه يجد نفسه يعيش علي هامش الحياة في المدينة; ولذلك فإن دارفور ليست جرح السودان النازف الوحيد فقد تكاثرت جراحنا النازفة.
نموذج دارفور جاء تكرارا لنموذج الجنوب, وأصبح في نفس الوقت نموذجا احتذته مناطق أخري تنحصر الآن في جنوب كردفان وجنوب النيل الأزرق وقد تنفجر في وجهنا في مناطق أخري ونحن نواجه الضغوط الاقتصادية الحالية, وهذا وحده سبب كاف لأن نواصل البحث عن مشروع وطني جديد لو أردنا لهذا الوطن أن يتجاوز أخطاء الماضي ويحافظ علي وحدته ويحقق أمنه واستقراره.
إن هذه الأحداث المتلاحقة وهذا الاحتقان في علاقة الشمال بالجنوب وهذه الأزمة الاقتصادية الحادة كلها أعراض لمرض واحد وهو أن المشروع القائم فشل في أن يحقق للسودان وحدته وتقدمه ونهضته, وأنه قد فقد كل مبررات بقائه, وقد آن أوان التغيير الذي يواكب هذه المتغيرات ويؤسس لدولة جديدة علي أسس جديدة ومفاهيم جديدة تستلهم الموروث السوداني لتخاطب التحديات الجديدة وتنشئ أجهزة حكم راشد للناس وبالناس عبر نظام حكم ديمقراطي بمشاركة جماعية ومؤسسات متعددة قائمة علي العدالة والإنصاف والحرية والمشاركة الفاعلة في صناعة القرار وسيادة حكم القانون والتبادل السلمي للسلطة. وهذه المرتكزات لا ينبغي أن تطرح كشعارات ولكن ينبغي أن تتحول إلي خطة عمل لتأسيس الدولة علي قواعد جديدة.
إننا الآن نعيش في حالة من انعدام الرؤية الشاملة وننظر إلي القضايا نظرة التجزئة فنتعامل مع دارفور كأنها أزمة منفصلة تماما عن أزمة النيل الأزرق أو أزمة جبال النوبة أو مظاهرات نيالا أو الحركات الاحتجاجية في الخرطوم والمدن الأخري رغم أن هذه الأحداث جميعا ليست سوي أعراض متعددة لمرض واحد, ولا يمكن معالجة أي منها بمعزل عن الأخري, ولا بد من أن يأتي العلاج شاملا والتغيير كاملا يطال كل هذه القضايا ويرسم السياسات المستقبلية مستفيدا من دروس الماضي الذي حفل بالإخفاقات.
تجزئة القضايا والنظر إلي كل قضية بمعزل عن باقي القضايا يمثل خللا خطيرا في نظرتنا لمسلسل الأزمات الذي ظللنا نعيش في كنفه خلال المرحلة الأخيرة, والخروج من هذا المستنقع يبدأ بإدراكنا أن هذه الأزمات متداخلة ومترابطة وأنها جميعا أعراض مختلفة لداء واحد, ومن ثم يجب أن نتحرك علي طريق الحل الشامل والتغيير الأشمل والبحث عن المشروع الوطني الجديد إذا ما أردنا أن نحافظ علي هذا الوطن موحدا ومتطورا أو ناميا. لقد أصبح الخيار أمامنا واضحا: هذا.. أو الطوفان!
العرب القطرية