بكت مصر وتعاطف العالم معها وهي تودع في 17 مارس 2012 مثلث الرحمات البابا شنودة الثالث. ثم تابعت مصر والعالم خطوات الأقباط نحو إنتخاب البابا الجديد
بكت مصر وتعاطف العالم معها وهي تودع في 17 مارس 2012 مثلث الرحمات البابا شنودة الثالث. ثم تابعت مصر والعالم خطوات الأقباط نحو إنتخاب البابا الجديد.
من الضروري إذن أن نفكر في الكرامة العظيمة والمسئوليات الخطيرة التي يحملها بابا الإسكندرية وبطريرك الكرازة المرقسية وهي تنبع من أنه خليفة القديس مرقس الرسولي الإنجيلي, وأنه بطريرك إحدي الكنائس الرسولية الأربعة التي كان لها دور تأسيسي في قيام المسيحية العالمية , وأنه الاب الروحي لأكبر الشعوب المسيحية في الشرق الاوسط, وأنه رئيس أساقفة الكنيسة القبطية التي أصبحت عالمية بامتدادها إلي أقاصي المسكونة.
لهذا كانت لتقاليد انتخاب بابا الإسكندرية أهمية كبري . وكما نتوقع في كنيسة حية وعريقة , فالتقاليد فيها تنضج وتتطور وتتفرع , ثم أحيانا تعود فتتشابك وتتكامل . وفي هذه كلها تواجه امتحان الكتاب المقدس والخبرة الرسولية والتاريخ بكل ظروفه.
البحث العلمي عن التقليد الكنسي
لتتبع مسار تقاليد وطرق انتخاب باباوات الإسكندرية الـ 117 راجعنا المصادر التاريخية المتاحة ثم قمنا بتصنيف تلك الطرق وتقسيمها إلي تسع فئات حسب الجدول المبين . وفي حدود الزمن والمراجع المتاحة لم نعثر علي أسلوب مؤكد لانتخاب 27 بطريركا. فكثيرا ما تجاهلت المراجع الأصلية طريقة انتخاب البطريرك. لذلك فمجال البحث مفتوح ونأمل أن يستكمله المهتمون بالأمر.
وقد وجدنا أن هناك ثلاثة طرق , استخدم كل منها عشر مرات أو أكثر هي: الانتخاب بالإجماع العام (35 مرة) والانتخاب بواسطة قسوس الإسكندرية (16 مرة) وإلقاء قرعة بين افضل المرشحين (10 مرات). وهناك ست طرق أخري اتبع كل منها بين ثلاث وسبع مرات . وهذا التكرار المحدود يعبر عن أنها لم تترسخ كتقليد كنسي ولكن علي أحسن الفروض, كانت حلا عمليا لظروف استثنائية , وعلي أسوأ الفروض , كانت تعبيرا عن انحراف أو تيهان أو انقسام أو اضطهاد.
ولقد وجدنا أيضا أن هناك بعض الباباوات انتخبوا بأسلوب يجمع بين طريقتين . فوضعناها في التصنيف تحت الطريقة التي كانت أكثر حسما لنتيجة الانتخاب .
وهذه هي التسعة طرق مرتبة حسب عدد مرات تكرارها في التاريخ.
1- الانتخاب بالإجماع العام
بين التسعين بطريركا الذين عرفنا طرق انتخابهم وجدنا 35 نالوا هذا التكليف بإجماع عام . في هذه الحالة عادة ما ذكرت المراجع عبارة عامة هي ## أجمع الأساقفة والقسوس والاراخنة علي اختيار فلان##. وفي معظم الأحوال لا نجد شرحا للتفاصيل ولكن من المتوقع أنها كانت مختلفة من حالة إلي أخري .
وربما كان انتخاب البابا يوأنس التاسع عشر (1928-1942) هو أول مرة يتم فيها انتخاب البطريرك بأسلوب عصري يشمل الاقتراع السري في يوم محدد (7 ديسمبر 1928) وأن تقوم بالانتخاب جماعة محددة من الأساقفة ورؤساء الأديرة وأعضاء ونواب المجلس الملي العام ومجموعة منتقاة من أعيان الأقباط . وكان من تفاصيل النظام (الموثق بالأمر الملكي رقم 84 لعام 1928) أن يعاد الانتخاب بين الاثنين الحاصلين علي أكثر الأصوات إذا لم يحصل أي مرشح علي الأغلبية المطلقة في الجولة الأولي . ثم إذا تساوت الأصوات بين أثنين أو أكثر تعمل القرعة بينهم .
ثم صدرت لائحة مشابهة توثقت بالأمر الملكي رقم 37 لعام 1942, أنتخب علي أساسها البابا مكاريوس الثالث (1944-1945) والبابا يوساب الثاني (1946-1956).
2- الانتخاب بقسوس الإسكندرية
قام قسوس الإسكندرية بالدور الحاسم في انتخاب مالا يقل عن 16 بطريركا كان معظمهم في القرون الأولي . فحتي البابا ديمتريوس الأول (189-231) كان أسقف الإسكندرية هو الأسقف الوحيد في البلاد المصرية وكان يرأس مجلسا من اثني عشر قسيسا . وعند نياحته , كان الاثنا عشر ينتخبون واحدا من بينهم للارتقاء لهذه المسئولية .
وبالرغم من أن البابا بطرس الأول تمت التوصية بتعيينه من البابا السابق له , إلا أن انتخابه تم بطريقة حرة بواسطة قسوس الإسكندرية .
3- إلقاء القرعة بين أفضل المرشحين
ألقي آباؤنا الرسل قرعتهم بين أفضل المرشحين لكرامة الرسول الثاني عشر (أع 1: 12) ربما لغياب الفروق الظاهرة بين المرشحين يوسف ومتياس.
بهذا وضع الرسل سابقة لاهوتية تم علي مثالها انتخاب ما لا يقل عن عشرة من بطاركة الأقباط . وجدير بالملاحظة أن أولهم كان البابا الثالث أبيليوس (85-98) الذي أعقب البابا انيانوس الذي كرسه مارمرقس . أي أنها كانت الممارسة الأولي لكنيسة الإسكندرية في انتخاب أسقفها .
وبناء علي هذا فهناك احتمال كبير أن بعضا من الباباوات 4-11 قد جاء إلي الكرسي عن طريق القرعة بعد عملية انتخاب مبدئي قام به قسوس الإسكندرية . ولكننا وضعناه في الجدول تحت بند ##قسوس الإسكندرية## لأن هذا هو الوصف العمومي الذي يعطيه المؤرخون للمجموعة ككل .
ثم يأتي انتخاب الأنبا يوأنس البابا 48 (775-799) فنجد أن هيئة الناخبين قد لجأت إلي القرعة بعد إحباط طويل لأن مؤيدي كل من المرشحين الثلاثة لم يريدوا التراجع . أما في انتخاب الأنبا ميخائيل البابا 71 (1145-1146) فقد ألقيت القرعة لغياب الفروق بين المرشحين . وربما أول مرة يذكر المؤرخون صراحة أن الأسماء النهائية وضعت علي المذبح أثناء القداس ثم ألقيت القرعة هي في انتخاب الباباوات 102-105 (1660-1745).
فإذا أضفنا أنه بين الـ 27 بطريركا الذين لم نعرف طريقة انتخابهم هناك احتمال كبير أن بعضهم أختير بالقرعة , نستطيع الاستنتاج أن هناك احتمال عال أن ما بين خمسة إلي ثمانية بطاركة (بالإضافة إلي العشرة المؤكدين) قد جاءوا بالقرعة .
4- التعيين من البابا السابق
هناك 7 بطاركة تعينوا من البطريرك السابق لهم . وهناك 7 حالات أخري كانت لتوصية البابا السابق درجة ما من التأثير . وفي معظم تلك الحالات كان البابا يعلن رغبته (أحيانا علي سرير الموت) سواء تلقائيا أو ردا علي سؤال عن أفضل المرشحين في نظره . وأحيانا كانت رغبة البابا المنتقل تمنع البحث عن مرشحين آخرين للمقارنة والتفضيل وأحيانا كانت فقط تضع شخص ما علي رأس القائمة .
ويمكننا اعتبار تعيين مارمرقس الرسول البابا الأول لتلميذه انيانوس البابا الثاني (68-85) ضمن هذه الفئة . أما الأنبا بطرس البابا 21 (373-380) فقد جاء بتوصية من سلفه البابا اثناسيوس الرسولي . ولاشك كانت لتوصية أثناسيوس فاعلية الأمر الملزم لما له من مكانة في قلوب الإكليروس والشعب .
5- تأثير قوي من الحكام.
هناك ست حالات كان لتدخل الحكام نفوذا مؤكدا علي نتيجة الانتخاب. وابتدأ هذا النوع من التأثير بعد تنصير الإمبراطورية الرومانية وامتد إلي الحكم العربي .
فالأنبا ديسقوروس البابا 31 (515-517) فرضته الإمبراطورية أولا ليقوم بأعمال البابا ثم حدث قبوله شعبيا ورسامته كهنوتيا بعد ذلك .
أما حالة الأنبا كيرلس الثالث , البابا 75 (1235-1243) المعروف بابن لقلق , فكانت أسوأ سيناريو . فقد كان هناك دائما اعتراض من الأساقفة والقسوس والأراخنة علي ترشيحه ولكنه لجأ للحيل السياسية بما فيها من هدايا لبلاط الحاكم مستغلا صداقته لقبطي آخر هو أبن الميقات رئيس كتبة السلطان لكي يمنع نجاح أي مرشح آخر واستغرقت هذه المناورات 19 سنة والكرسي خال حتي مات معظم الأساقفة وبقي أثنين فقط قرروا رسامته قبل أن يموت أحدهما وينقطع التسلسل الرسولي .
6- الانتخاب بنفوذ الاراخنة منفردين
هناك خمسة حالات يذكر فيها التاريخ أن أراخنة الكنيسة قاموا منفردين بانتخاب البطريرك . إذا كان هذا الوصف دقيقا فلا عجب أنهم في معظم الأحوال انتخبوا علمانيا أو شماسا وليس راهبا أو كاهنا .
7- الانتخاب بنفوذ الأساقفة منفردين
هناك أربعة حالات تذكر فيها المصادر أن الأساقفة انتخبوا البطريرك ولا تذكر اشتراك القسوس أو الأراخنة .
وإذا كان هذا الوصف دقيقا وليس إهمالا من المصادر التاريخية فقد حدثت في عدد محدود يدل علي استثناء من القاعدة القبطية . وعلي العكس أصبح هذا هو التقليد السائد في الكنيسة الكاثوليكية حيث يجتمع مجلس الكرادلة في عزله عن باقي الكهنوت والشعب لاختيار البابا .
8- التعيين بأمر إلهي أو حلم
تعتبر الكنيسة القبطية مارمرقس الرسول بطريركها الأول وهذا هو النموذج المثالي للتعيين بأمر إلهي . وهناك ثلاث حالات أخري كانت فيها الرؤي أو الأحلام العامل الأساسي في اختيار البطريرك . والمثال المشهور في ذلك هو اختيار الأنبا ديمتريوس البابا الثاني عشر حيث رأي سلفه البابا يوليان ملاكا في حلم يخبره بأن الرجل الذي يحضر له عناقيد عنب في الصباح التالي يكون هو البابا الذي يخلفه . وإذ وجد ديمتريوس الكرام عنبا ينضج في غير موسمه أحضره للبابا يوليان وهو في فراش الموت وسرعان ما أصبح ديمتريوس بطريركا .
أما في انتخاب الأنبا ميخائيل البابا 46 (744ـ767) , فقد كان الأساقفة والقسوس والاراخنة مجتمعين في الإسكندرية في مشاورات لم تسفر عن اتفاق علي أي مرشح , وعندما أخبرهم أحد الشمامسة عن مرشح جديد رأي حلما بشأنه , استراح الجميع للفكرة وتم تنفيذها !
9- المصادفة والظروف
في حالة الباباوات 42 و73 بعدما تداولت الجماعة الانتخابية في شأن المرشح الرئيسي واستمعوا إليه , وجدوه غير مناسب . ولكن في ذلك الجو ظهر أسم تلميذ المرشح وانتخب التلميذ بدلا من المعلم .
أما في انتخاب الأنبا زخاريوس البابا 64 (1004-1032) فلم يكن ضمن المرشحين بل بالصدفة كان كاهنا يخدم باتضاع الهيئة الانتخابية وعندما كان نازلا إلي غرفة المداولات حاملا جرة تعثر علي السلالم ووقع ولكن بأعجوبة لم تنكسر الجرة . فجذب الحادث انتباه الأساقفة وقرروا فورا انتخابه للبطريركية .
خاتمة
واضح من هذا التصنيف والإحصائيات والتعليقات أن الانتخابات البابوية في مصر سلكت تقاليدا متعددة بعضها إنجيليا ورسوليا وبعضها عكس ظروفا تاريخية وسياسية وكنسية. لقد تطورت الأولويات مع الزمن وتفاعل كل منها بدرجات متفاوتة, إيجابيا وسلبيا, مع ضمير الكنيسة القبطية وحياتها عبر القرون .
وواضح أيضا أن إجماع ممثلي الأكليروس والشعب بصورة أو بأخري هو العنصر الأساسي في التقاليد التي تكرر اتباعها أكثر من غيرها وأصبحت لها جذور عميقة في حياة الكنيسة . أما الطرق التي كان النفوذ فيها انفراديا أو لفئة في غيبة الجماعة أو الاستقواء بالحاكم فلم تتكرر إلا نادرا ونرجو ألا يسمح لها الله بالعودة .
من أهم مراجع هذا البحث دائرة المعارف القبطية التي أعادت نشرها جامعة كليرمونت. تجدها من جوجل :
Claremont Coptic Encyclopedia
** وطني: هذه المادة تبحث في الجوانب التاريخية لآليات اختيار البابا في الكنيسة ولكنها لا تتعارض مع لائحة 1957 التي اتفق المجمع المقدس والمجلس الملي العام وهيئة أوقاف الأقباط الأرثوذكس علي التمسك بها في مسار اختيار البابا المقبل.