في عام 1993 نشر الكاتب الأمريكي مايكل كريشتون, روايته الشهيرة التي حققت مبيعات قياسية حول تنامي قوة ونفوذ الشركات اليابانية في الولايات المتحدة, وسرعان ما اقتبست الرواية التي اتخذت اسما دالا, ##الشمس الصاعدة##,
في عام 1993 نشر الكاتب الأمريكي مايكل كريشتون, روايته الشهيرة التي حققت مبيعات قياسية حول تنامي قوة ونفوذ الشركات اليابانية في الولايات المتحدة, وسرعان ما اقتبست الرواية التي اتخذت اسما دالا, ##الشمس الصاعدة##, لتصبح فيلما سينمائيا ذائع الصيت ضم خيرة نجوم هوليود. لكن المفارقة أن الفيلم تزامن عرضه في شاشات السينما مع دخول الاقتصاد الياباني مرحلة من الركود الطويل ما زالت ترزح تحتها حتي اليوم, وخلافا لما تنبأ به الفيلم من صعود مدوي لليابان واختراقها للسوق الأمريكية, كانت اليابان تعاني مشاكل عديدة. وتصادف هذا الانحدار في القوة اليابانية مع سقوط الاتحاد السوفييتي وانتهاء الحرب الباردة. ولسنوات طويلة بدا أن أمريكا هي القوة العالمية الوحيدة التي لا يضاهيها أحد, سواء من الناحية الاقتصادية أو العسكرية. بيد أن الشعور الطاغي بالقوة الذي تملك الولايات المتحدة خلال الفترة التي أعقبت الحرب الباردة وأفول الشيوعية, سرعان ما فسح المجال أمام مرحلة جديدة من الشك والتساؤل, لاسيما بعد هجمات الحادي عشر من سبتمبر, وتفاعلات الحروب التي تسببت فيها. وفي الوقت الذي كان العقل الأمريكي يصارع العواقب الوخيمة لتلك الحروب في الشرق الأوسط, والتراجع الواضح للنفوذ الأمريكي, كانت دول أخري تتهيأ للصعود تعرف باسم مجموعة ##البريكس##. وبالنظر إلي أدائها الاقتصادي الجيد والنمو الكبير الذي حققته علي مدي السنوات الماضية, بدا وكأن الوقت قاد حان كي تنضم تلك الدول إلي نادي البلدان العظمي في العالم وتتولي مسؤولياتها الدولية. بل الأكثر من ذلك, لم تتضرر دول ##البريكس## بنفس درجة بلدان منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية التي تعتبر نادي البلدان الكبري في العالم, من الأزمة المالية التي اندلعت في عام 2008 وظلت بمنأي عن تداعياتها السلبية. وهكذا بدأ يتبلور حديث جديد في الدوائر الدولية عن بروز نظام عالمي جديد أهم ملامحه صعود آسيا علي الساحة الدولية.
لكن رغم الحديث المتواتر عن الإنجازات التي حققتها دول ##البريكس## خلال العقد الأخير, ما زالت دول المجموعة تعاني, كل منها علي حدة, من تحديات داخلية عديدة يتعين التعامل معها وإيجاد حلول لها قبل أن تصبح قوي عالمية. والحقيقة أن العديد من دول ##البريكس## تواجه مشاكل مشتركة; مثل كيفية انتشال ملايين المواطنين من وهدة الفقر المدقع وتحسين ظروفهم المعيشية, وفي نفس الوقت المجاهدة للإبقاء علي معدلات نموها المرتفعة, هذا بالإضافة إلي مشاكل الطبقة الوسطي المتنامية وما تحتاجه من متطلبات مستجدة, ثم المعضلة الديموغرافية لدي بعض الدول مثل روسيا والصين اللتين تشهدان تناقصا في عدد القوي العاملة. ولا ننسي أيضا أن الإشكالات الداخلية الخاصة بكل دولة متغيرة حسب الظروف, فالصين والهند علي سبيل المثال تواجهان أقليات عرقية تعارض النظام, وهي الجماعات العرقية التي كانت مصدر إزعاج للسلطات والحكومة المركزية, لاسيما الصين التي تتعامل مع مطالب انفصالية في التبت, ومع العنف في أقاليم أخري تضم أقليات مسلمة. كما أن بعض المناطق النائية في الهند تبقي خارج السلطة المركزية لسيطرة بعض الجماعات الماوية المتطرفة علي شؤونها. فيما تعاني البرازيل من إشكالية الاستفادة من مواردها الطبيعية الهائلة وطرحها في السوق العالمية دون الوقوع في فخ لعنة الموارد التي تقاسيها دول أخري. هذا في الوقت الذي يتعين فيه علي روسيا إيجاد مكان لها في أوروبا مضطربة وتهدئة مخاوف الدول المجاورة التي لم تتخلص بعد من إرث الشيوعية.
وإذا كان النفوذ العالمي أمر تسعي إليه بشدة الدول الصاعدة, إلا أنه يحمل في ثناياه مسئولية متنامية تجاه العالم, وهنا يمكن التساؤل عن الطريقة التي ستتوسع بها الصين وروسيا دون دفع جيرانهما إلي الاحتماء تحت الجلباب الأمريكي؟ كما يمكن التساؤل عما إذا كانت البرازيل والهند ستقتربان أكثر من الولايات المتحدة, أم أنهما ستسلكان طريقا مستقلا لتصبحا بديلا للقوي التقليدية في العالم؟ فالهند والصين يفرقهما نزاع حدودي قديم ومستمر تسبب في حرب طاحنة بين البلدين عام 1962, كما أن الهند الصاعدة تعاني من مشاكلها المزمنة مع باكستان حول كشمير وقضايا أخري, وتعيش بين الحين والآخر علي وقع الهجمات الإرهابية التي تأتي من باكستان. أما الصين فهي الأخري تخيف الدول المجاورة, ولها مطالب حدودية مع أغلب الدول المطلة علي بحر الصين, ومن غير المستبعد انفجار تحالفها مع كوريا الشمالية مع ما قد يسببه ذلك من تدفق كبير للاجئين الكوريين إلي أراضيها. وما دامت هذه المشاكل مستمرة ستبقي الصين والهند منشغلتين بالتحديات الداخلية والأخطار المحلية القابلة للانفجار, وهو ما يثير سؤالا آخر يتعلق بأمريكا, مفاده ما إذا كانت الانتكاسات التي تعرضت لها الولايات المتحدة في السنوات الأخيرة مجرد تراجع مؤقت في النفوذ العالمي, أم أنه دائم ومستمر؟ فلو استطاع الغرب, وعلي رأسه أمريكا, الخروج من المأزق الاقتصادي الحالي, فإنه سيحافظ علي تفوقه وعلي مكانته العالمية, لكن التحدي الآخر الذي ينتظر أمريكا هو التغلب علي انقسام نظامها السياسي بين ##الديموقراطيين## و##الجمهوريين##, والدور المعطل الذي يعلبه الكونجرس, وهو ما يدل عليه الاختلاف الكبير بين الحزبين الرئيسيين حول تمرير الموازنة وسبل معالجة الاختلالات الاقتصادية. وما لم يتوصل الطرفان إلي تسوية للأزمة, فإن الحلول المقترحة حاليا, مثل خفض الموازنة, مع رفع الضرائب, قد تؤدي إلي خصم 3.6 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي, محدثا أزمة اقتصادية أخري أشد وقعا من الأزمة الحالية, ليتكرر بذلك السيناريو الياباني مع الولايات المتحدة التي قد تجد نفسها مضطرة إلي التراجع عن الساحة الدولية والانكفاء علي نفسها, مع فارق كبير هو أن انسحاب أمريكا من المسرح الدولي سيكون له تداعيات كبيرة في وقت يعاني فيه العالم من صعود التطرف وتزايد الاضطرابات التي تغذيها الصراعات علي الموارد, ليدخل العالم مرحلة جديدة من الفراغ الجيواستراتيجي ستكون له كلفة باهظة علي الأمن والاستقرار في الدوليين.
نيويورك تايمز