فرح أنطون(1874-1922)روائي عربي,لبناني الأصل,وكاتب مسرحي,ومن كتاب المقال.نشر رواية##أورشليم الجديدة##عام 1904,أي قبل إصدار كتابه##أبن رشد وفلسفته##بعام واحد.وفي رأيي أن هذا الكتاب هو مقدمة لفهم الرواية.
في كتابه##أبن رشد وفلسفته##يدافع فرح أنطون بحرارة عن العلمانية,أي فصل الدين عن الدولة,بدعوي أنها العلامة العظمي علي الحضارة,وذلك استنادا إلي فلسفة أبن رشد.ويهدي أنطون كتابه إلي##الأجيال الجديدة في الشرق,في الإسلام والمسيحية والأديان الأخري##وهو يقصد##العقلاء في كل ملة وكل دين الذين عرفوا مضار فرج الدنيا بالدين,فصاروا يطلبون وضع أديانهم جانبا في مكان مقدس محترم,ليتمكنوا من الاتحاد اتحادا حقيقيا ومجاراة التمدن الأوربي الجديد لمزاحمة أهله وإلا جرفهم جميعا وجعلهم مسخرين لغيرهم##.
وإثر نشر الكتاب ثار جدل بين أنطون والشيخ محمد عبده علي صفحات مجلة##الأستاذ##التي كان يصدرها محمد عبده,ومجلة##الجامعة##التي يصدرها أنطون إذا ارتأي محمد عبده أن فصل الدين عن الدولة أمر محال.وقد أدي هذا الجدل إلي المخاصمةوالفراق ونهاية عهد الصداقة بينهما.
وهذا يفضي بنا إلي التحليل الفلسفي والأدبي لمفهوم أنطون عن التسامح.ففي أحد ردوده علي انتقادات الشيخ محمد عبده,يعرف أنطون التسامح علي النحو التالي:لا نقدر أن نعرف##التسامح##تعريفا لغويا لأن هذه الكلمة دخيلة في اللغة العصرية الجديدة.وإنما نعرف معناه باصطلاح الفلسفة.فمعني التسامح عندهم,وهو المعني الذي استعملناه له,أن الإنسان لا يجب أن يدين أخاه الإنسان ,لأن الدين علاقة خصوصية بين الخالق والمخلوق.فليس إذن علي الإنسان أن يهتم بدين أخيه الإنسان أيا كان لأن هذا لا يعنيه.والإنسان من حيث هو إنسان فقط,أي يغض النظر عن دينه ومذهبه,صاحب حق في كل خيرات الأمة ومصالحها ووظائفها الكبري والصغري حتي رياسة الأمة نفسها.هذا معني التسامح عندهم.وإذا اتضح ذلك فقد اتضح أن السلطة الدينية لا تقدرعلي هذا التسامح.ذلك أم غرض هذه السلطة مناقض لغرض التسامح علي خط مستقيم.فهي تعتقد اعتقادا ما وراؤه ريب أن الحقيقة في يدها,وأن قواعدها وتعاليمها هي الحق الأبدي الذي لا يداخله أقل شك وما عداه فكفر وضلال.ثم يستطرد أنطون فيقول:##ولا تكون حينئذ أمام صاحب هذه السلطة الدينية إلا طريقتان:الأولي أن يضغط علي غير قومه ليدخلهم في دينه.والضغط أصناف وأنواع.فمنه القسر ومنه الإرهاب ومنه أكثر غبنا يسد طريق الرزق.وقد شوهد هذا الأمر كثيرا في أوربا في صدر جاهلياتها.والطريقة الثانية أن ينظر صاحب تلك السلطة إلي من لم يكن من قومه بعين النقص والاحتقار,لأنه لا يكمل إلا متي صار من قومه.ويرعاه مضطرا لا مختارا.وعلي ذلك تتألف في باطن الأمة فئات منها عزيزة ومنها ذليلة.وبذلك يسقط الحق الإنساني الذي ذكرناه,وتبطل فضيله التسامح كما يجب أن نكون وكما وصفها الله##.
وفي رأي أنطون أن العلمانية,بمعني فصل الدين عن الدولة,أي فصل السلطة الزمانية عن السلطة الروحانية,هي أساس التسامح.وقد كان فرح أنطون يحلم بتأسيس دولة علمانية يشارك فيها المسلمون والمسيحيون علي قدم المساواة.وتستند هذه الفكرة إلي افتراض أن الأديان في حقيقتها متشابهة,لأنها تقوم علي جملة مباديء تدور علي أن الطبيعة البشرية والحقوق والواجبات الإنسانية في حقيقتها متماثله.ويري أنطون أن التسامح,بالمعني السابق,هو الوسياة الوحيدة إلي تحقيق التسامح في جميع الأديان,ثم هو أساس المدينة الحديثة.ويري أنطون كذلك أن التسامح ضروري لخمسة أسباب:أولها وأهمها هو تحرير العقل الإنساني من أية سلطة مقيدة,وذلك لصالح الحضارة الإنسانية وتقدمها.وثانيها المساواه التامة بين أبناء الأمة الواحدة,بغض النظر عن معتقداتهم وايديولوجياتهم.ثالثها أن السلطة الدينية تشرع برؤية أخروية وليس برؤية دنيوية,والرؤية الدنيوية هي الغرض من تشريعات الحكومة.رابعها أن الدولة المحكومة بالدين ضعيفة فالسلطات الدينية ضعيفة,بحكم طبيعتها,لأنها تحت رحمة المشاعر الجماهير.ثم هي سبب ضعف المجتمع,لأنها تركز علي ما يفرق بين البشر,بل إن مزج الدين بالسياسة يضعف الدين ذاته,لأن السياسة تهبط بالدين إلي الحلبة وتعرضه لمخاطر الحياة السياسية ومؤامراتها.وأخيرا الوحدة الدينية مستحيلة,لأنه علي الرغم من أن الدين الحق واحد فالمصالح الدينية المتباينة معادية دائما لبعضها البعض.وهذا هو السبب في أن الحكومة الدينية تتجه إلي الحرب.ومن أجل ذلك فإن أنطون يدافع عن الوحدة الوطنية وليس عن الهوية الدينية في الدولة السلطة العلمانية فيها مستقلة.ثم هو يري أن كل هذا لا يتحقق إلا بالعلم والفلسفة, لأنها الوسيلة الوحيدة الكفيلة بالقضاء علي التعصب الديني. والآن ثمة سؤال:ما الرابطة بين التسامح و##أورشليم الجديدة##؟
إن ##أورشليم الجديدة##هي الترجمة الأدبية لكاتب أنطون عن##ابن رشد وفلسفته,حيث فكرة التسامح هي الفكرة المحورية التي تدور عليها الشخصيات ولأحداث.فأحداث الرواية تدور في أورشليم عندما دخلها العرب بقيادة الخليفة عمر بن الخطاب في منتصف القرن السابع الميلادي.وعندما حاصر العرب أورشليم فرضوا علي أهلها ثلاثة اختيارات,إما الدخول في الإسلام,أو دفع الجزية,أو الحرب.ورفض أهل أورشليم بقيادة المطران, الاستسلام للعرب,وأثروا الحرب علي الخضوع لدين آخر.وقد استمر حصار أورشليم إلي أن عقد العرب اتفاقا مع المطران عبر يهودي وجد أن مصلحته هي في الانتقام من المسيحيين بسبب كراهيته العميقة للمسيحية.ووقف إلي جانب المطران إيليا الذي كان يبشر بالتسامح بين الطرفين أثناء المفاوضات.
وقد وجه فرح أنطون الأحداث التاريخية لتحقيق غرضين من الرواية:أحدهما توضيح فكرته عن التسامح,وثانيها إلقاء الضوء علي مسألة معاصرة,وهي خلافه مع الشيخ محمد عبده حول مسألة العلمانية.ولهذا فإن العقدة الرئيسية للرواية والتي تدور عليها الأحداث هي##موعظة الجبل##لإيلياو##أورشليم الجديدة##هي الجنة الدنيوية التي تتحقق فيها العلمانية والمساواه والإنسانية الحقيقية,بل يتحقق فيها,فوق هذا وذاك,التسامح يقول الراهب ميشيل في##موعظة الجبل##:##قد وصلت إلي آخر العمر وأنا أعتقد اعتقادا هدم آماني كلها.وهذا الاعتقاد هو أننا في الهيئة الاجتماعية لا يمكننا الإصلاح بواسطة الدين إلا إذا كانت الإنسانية تعود إلي طفولتها الأولي.فإن الدنيا زحفت وتغيرت,وصار يلزم نبي جديد للإنسانية الجديدة.يا صديقي الصغير,لا تستغرب هذا الكلام الذي أقوله لك وللكاهن,فأنني تعودت أن أقول الحق ولو كان علي نفسي.وأعز شئ عندي أن الدين لم يقدر علي إصلاح الفساد الاجتماعي فنحن نطلب قوة عادلة تستوفي هذا الدين من الأقوياء للضعفاء.أما نحن البشر فننظر إلي المستقبل ونتطلع إلي ما وراء الفضة والذهب,فإننا ننتظر من العلم أن يقلب الإنسانية التعيسة إلي إنسانية سعيدة.إن إصلاح الأرض مسألة علمية لا مسألة دينية.وأورشليم القديمة يجب أن تفسح مجلا لأورشليم الجديدة.فيا أيتها الأحلام الذهبية والأوهام الخيالية أتكونين يوما حقيقة مجسمة.يا أيتها الإنسانية التعيسة أتبلغين يوما طور الكمال هذا أم تبقين إلي الأبد في اضطراب وبغض وفساد وحروب وشقاء كما أنت الآن.ويا أورشليم الجديدة أتصنعين يوما ما عجزت عنه أورشليم القديمة.هذان طرفان لا اتفاق بينهما إلا في النهاية.أحدهما يمثل أورشليم القديمة والآخر يمثل أورشليم الجديدة##.
إن الرمزية الدينية واضحة تماما في الفصل المعنون##الموعظة علي الجبل##,ومهما يكون الأمر,فإن أنطون ينشر قلب رسالة المسيح الروحية,كما هي متمثلة في موعظته علي الجبل,رأسا علي عقب,أي جعلها رسالة دنيوية ومعني ذلك أن غايه أنطون علمنة المحبة المسيحية,أو بمعني آخر علمنة التسامح وإنزاله إلي الأرض لتحقيق الفردوس السماوي هنا وليس هناك.إن علمنة تعاليم المسيح يفصل الواقع الدنيوي,بكل فساده الاجتماعي والسياسي,عن المحبة الإلهية السماوية بكل نقائها وقيمها المجردة.نقول إن هذه العلمنة ليست إلا فداء لتجسيد المثالية المسيحية.فليس في الإمكان أنسنة القيم المثالية للمحبة إلا بممارستها في الحياة اليومية وتهيئتها لإزالة الفساد الدنيوي وتحقيق المساواة والرضي في هذا العالم,هنا والآن.
وهذا بدوره يفضي إلي الحديث عن المثالية فرح أنطون,حيث يقصر مفهوم التسامح علي مجال العقيدة الدينية دون المجال السياسي.فكل مشكلته قبول الأديان بعضها البعض.وكل ما يطلب إما تنحية الدين وإما اعتباره مسألة خاصة.وقواعد التسامح الديني,في روايته##أورشليم الجديدة##مطروحة علي لسان الراهب ميشيل عندما يقول:##إننا يابني لا نبحث ولا نجادل قطعيا في أصل من أصول الدين ولا في فرع من فروعه فإن الباحث بعقله في الأديان لإثبات هذا الأصل أو ذاك الفرع كالباحث علي صفحات الماء.ولذلك نحن نحترم كل أصل وكل فرع احتراما ونسلم به.إنه متي أريد طلب الخير والعبادة الحقيقية النقية فكل الطرق المؤدية إليهأ حسنة حتي كان القلب مخلصا نقيا.إذا,ما السبب في هذا المفهوم المثالي للتسامح عند أنطون؟
سب ذلك,في تقديري,قائم في فهم أنطون للعلمانية,علي أنها مجرد فصل السلطة الروحانية عن السلطة الزمنية,في حين أن العلمانية تعني أسلوب تفكير وأسلوب حياة يهيمن علي جميع المجالات الاجتماعية والثقافية,حيث إنه يخترق الحياة الباطنية والظاهرية للفرد.إن العلمانية,في حقيقتها تكمن في العقل,حيث إنها تعني التفكير في النسبي بما هو نسبي وليس بما هو مطلق,علي حد تعريف مراد وهبة للعلمانية.ولكن أنطون يرفض اعتبار العلمانية أسلوبا للحياة.وهذه المفارقة هي السبب الذي دفع أنطون إلي قصر أنطون التسامح علي المجال الديني دون المجال السياسي وهو بذلك,من حيث لا يدري,يروج للتعصب,لأن حذف البعد السياسي للتسامح أو تفريغه من محتواه السياسي يفضي إلي تعتيم الوعي بجذور التعصب.ذلك أن التعصب هو النتيجة الحتمية لغياب مثل هذا الوعي.وهكذا يفرز التسامح الديني نقيضه,وهو التعصب,لأن الإطار المرجعي عند أنطون هو الصراع الديني أو المحابهة بين عقيدتين أو أكثر ليس إلا.
والسؤال الآن:ما الآثار المترتبة علي المفهوم المثالي للتسامح عند أنطون؟
إن استبعاد السياسة من التسامح في مفهوم أنطون قد أدي بالفعل إلي نقيضه.وندلل علي ذلك بظاهرة تاريخية في العالم العربي,وتتمثل في الرفض الكامل للحضارة الغربية المسيحية,بدعوي التعصب الديني الذي كشف عن مكنونه الصراع الذي دار بين أنطون ومحمد عبده,حيث أعلن الأخير أن الفصل بين الدين والدولة ليس فقط أمرا غير مرغوب فيه,وإنما هو أمر محال لأن الحاكم ينبغي أن ينتمي إلي دين معين من شأنه أن يحدث تأثيرا في سلوكه وأفعاله.وهكذا يدلل الواقع التاريخي بشكل حاسم علي انتصار التعصب علي التسامح.