أمسكوا زمام المبادرة بين أيديهم وقرروا الاستمرار في المقاومة, مما يشكل عملا فريدا في التاريخ ثورة 1919 إنهم أطفال الإسكندرية فقد استطاعت الثورة ضمها إلي صفوفها مثلما نجحت مع كل فئات الشعب فخاضوا ببسالة المواجهة ضد الإنجليز معرضين حياتهم للخطر.. وهم يصيحون نحن أطفال نحاربكم بالحجارة وترموننا بالرصاص, ونحن طلاب حرية, وأنتم تغتصبونها بقوة السلاح….
كانت ثورة 1919 انفجارا شعبيا تلقائيا لم يكن لأحد فضل في تفجيره إذ كانت رد الشعب علي نفي سعد زغلول ورفاقه إلي مالطا ولكن فضل الوفد الحقيقي هو في تلقي هذا الانفجار وتحويله إلي طاقة ثورية حقيقية تجبر إنجلترا علي الإذعان لإرادة الشعب المصري وتغير خططها إلتي كانت قائمة علي استمرار الحماية في نهاية الأمر. وكانت مقاطعة لجنة ملنر هي المسمار الذي دق في نعش الحماية البريطانية وهي التي قلبت خطط بريطانيا رأسا علي عقب في 15 مايو 1919 أعلن اللورد كيرزون وزير الخارجية البريطانية اعتزام الحكومة إيفاد لجنة للتحقيق في أسباب الحركة الثورية في مصر, وأعلنت الصحف الإنجليزية أن اللجنة ستسافر إلي مصر في خريف ذلك العام ولكن المشاعر كانت متأججة في مصر وزاد في هياجها تمسك الحكومة البريطانية بالحماية فتأخر حضورها.
وفي 22 سبتمبر 1919 أعلن رسميا في لندن تأليف اللجنة برئاسة اللورد ملنر, ولم تكد الأنباء ترد إلي مصر من لندن عن اللجنة حتي راحت الأنباء تتضارب حول الموقف الموحد الذي ينبغي علي المصريين اتخاذه عند قدومها إلي مصر.وقاد الوفد حركة مقاطعة لجنة ملنر بإيعاذ من سعد زغلول الذي وصف فكرة اللجنة بأنها مضرة ضررا بليغا بالأمة وسرعان ما أخذت فكرة المقاطعة تنتشر انتشار النار في الهشيم, وراحت الصحف المصرية تنشر أنهارا وأنهارا من البرقيات التي تعلن الاحتجاج الشديد علي اللجنة في صيغة واحدة. وفي 24 أكتوبر اندلعت المظاهرات في القاهرة والإسكندرية.. وشهدت الإسكندرية أعنف مظاهرات أعادت إلي الأذهان ثورة مارس الشهيرة فقد راح ضحيتها عدد كبير من المواطنين وإضطر المتظاهرون إلي إقامة المتاريس في الشوارع واقتلاع البلاط من الطريق المؤدي إلي رأس التين وحفر خنادق في الشوارع لمنع سيارات البوليس والجيش البريطاني من تعقب المتظاهرين علي أن الأمر الذي يثير الدهشة اشتراك الأطفال في هذه المظاهرات كما جاد في تقرير عيد الرحمن فهمي بك سكرتير عام لجنة الوفد المركزية لسعد زغلول عن حوادث يوم 24 أكتوبر بالإسكندرية ضد قدوم لجنة ملنر لم يكد يخرج المصلون يجمعهم من مسجد سيدي أبو العباس حتي إنهال عليهم الجنود ضربا. وهجم عليهم الفرسان بخيلهم… فشبت معركة بين الفريقين انتهت بمأساة أليمة إذ استنجد البوليس بفصيلة من الجيش البريطاني وعندما جاءت أطلقت الرصاص علي المتظاهرين فسقط العديد من القتلي والجرحي الأمر الذي جعل الأهالي يتحاشون خطر المصادمة فانسلوا فرادي من طرق متعددة.. وهنا كتب عبد الرحمن فهمي: إن المصلين أرادو حمل الجرحي إلي صيدلية إنجليزية, فأوصدت بابها في وجه المصابين فتزاحموا علي الصيدلية حتي تصدعت أبوابها وبقي أمام القوة عدد غير قليل من الأطفال الذين قرروا الاستمرار في المقاومة وبدأ الأطفال والفتيان بين مساء الجمعة وصباح السبت يتأهبون لحرب الحجارة والقلل وهو السلاح الذي لم يستخدمه غيرهم من أطفال الثورات, وأخذ الأطفال والصبية الذين تراوحت أعمارهم بين 9و18 سنة علي عاتقهم أن يقيموا في سواد الليل المتاريس والخنادق في الطرق المؤدية إلي حي رأس التين لاتقاء هجمات البوليس والجنود, فصاروا يجمعون أحجارا يقذفون بها الجنود, ولم ترهبهم نيران البنادق. ولم يكن في طاقة الجنود الإنجليز أن يفعلوا أكثر من إطلاق الرصاص من علي بعد فأصابوا عددا كبيرا من الأطفال.
وقد اتخذت حرب الحجارة شكلا أكثر جدية فيما يفعله الفتيان فأقام الوطنيون رقباء بجوار المتاريس, ووقف بجانب متراس الميناء فتي يجمل راية مصرية لأجل منع الأتوموبيلات, وغيرها من المرور في تلك النقطة اجتاز الخط فكانت إذا مرت سيارة عسكرية إنجليزية يرفع هذا الرقيب يده قائلا للسواق هالت (إي توقف Halt) ويشير إليه بالرجوع.
وكتب د. يونان لبيب رزق في تأريخه لهذه الحادثة واقعة طريفة وهي أن كلا من وزير المواصلات زيور باشا وسكرتير مجلس الوزراء أحمد زكي باشا كانا زاهبين إلي قصر رأس التين لحضور جلسة مجلس الوزارء وكان كل منهما في سيارته فلما وصلت السيارتان إلي خط الدفاع صاح الفتي المعين للحراسة هناك (قف وارجع) فاضطر كلاهما إلي الرجوع وقد حاولا المرور في شارع آخر فوجدا ذلك الشارع أيضا مسدودا فاستعانا بجنديين وسيارة مسلحة حتي تيسر لهما الوصول إلي قصر رأس التين, كما أن الترام توقف في الجهة المذكورة ولم يعد يسير قطارا من قطره علي الخط الدائر وخط الأنفوشي. وقد أوقعت تلك التطورات الدهشة في نفوس المسئولين البريطانيين عن المدينة.
العجيب أن المتاريس التي أقامها الأطفال تمتد بعرض الشارع وكل واحد من المتاريس يمتد إلي 16 مترا وارتفاعه لا يقل عن متر. ولم يصدق الحكمدار ما فعله الأطفال فقال لبعض محدثيه أنه لا يصدق أن الأطفال وحدهم يمكنهم أن يقوموا بهذا العمل وسن أكبرهم لا يتجاوز الثانية عشر أو الرابعة عشر لأن كل منافذ الطرق الموصلة إلي شارع فرنسا ورأس التين بالميناء الشرقية سدت بالمتاريس. كما أقيم نحو عشرة متاريس أخري بالقرب من محكمة المنشية إلي ما بعد أجزخانة النيل.
فضلا عن ذلك أقام الأطفال أمام جيش الإنجليز علي ساحته الميناء الشرقية وهو ميدان مكشوف طوابي ترابية وتلالا مرتفعة أخذوا حجارتها من عمارات أوجدتها الصدف قريبا منهم وحضروا خنادق يختبيء فيها الطفل فلا تصيبه الرصاصة ويقذف بالحجر علي الجند ثم يختفي, وقسموا العمل فيما بينهم فرق يجلب الأحجار وفريق يحمل في ثوبه التراب وفريق يرصد الطرق الخلفية, وجعلوا لهم راية حمراء أقاموها في منتصف الطريق حتي تعذر سير العربات والأوتومبيلات, عندما أراد الوزراء الوصول إلي سراي رأس التين من الشارع العمومي تعذر عليهم ذلك بسبب رفع بلاطه فلما ساروا من الطريق البحر علي الميناء الشرقية منعهم بعض الأطفال من المرور قائلين لا تمروا فهذا خط الدفاع لوطني.
وكان الأطفال يكتبون لأعدائهم أوراقا كانت تعتبر في منهي الحكمة والحذق لو كان صدورها من رجال كأن يقولوا مثلا: لانهادنكم إلا قليلا ريثما يحضر أعضاء مؤتمر الصلح فيفاوضوننا في الاستقلال أو كقولهم نحن أطفال نحاربكم بالطوب وترموننا بالرصاص ونحن نطالب بالحرية وأنتم تغتصبونها بقوة السلاح……
ويذكر أن وفودا من المدينة ذهبت إلي محافظ الإسكندرية حسني عبد الرازق باشا تطالبه بسحب القوة الإنجليزية من أمام الأطفال فظهر من إجابته عدم قدرتة علي سحبها إلا في الوقت المناسب فأنصرفت هذه الوفود بعد أن قدمت احتجاجا بما جري, وعندئذ دعا المحافظ مندوبي الصحف في الإسكندرية إلي لقاء في الحادية عشرة صباح الأحد 26 أكتوبر 1919 لإقناعهم بعدم جدوي المظاهرات, وبأن مجيء لجنة ملنر إلي مصر ورجوعها بالفشل خير من فشلها قبل مجيئها.. ولكن الصحفيين الوطنيين ردوا عليه بأن المظاهرات ضرورية عند المناسبات تأييدا لرجال الوفد في الخارج حتي لا يتخذ الأعداء سكوت الأمة ذريعة علي عدم تأييدها للوفد.
وفي صباح الاثنين 25 أكتوبر كانت القوة الإنجليزية لم تزل في مكانها والأهالي لم يفارقوا الأطفال لكي تنسحب القوة, ويروي من بطولات الأطفال أنهم عندما شاهدوا في يوم الجمعة عربات السجون تمتليء بالأهالي المعتقلين بتهمة الاشتراك في المظاهرات أو التحريض عليها اقتربوا من إحدي هذه العربات ففتحوها عنوة وأخرجوا منها الرجال المحجوزين ثم هشموها فلم يبقوا لها أثرا إلا قطع حديدية ملقاة في الطرقات.
وفي يوم 28 أكتوبر سحبت القوة بعد أن لم تجد مبررا لوجودها إذ كف الأطفال عن تحديها وأعطي الحكمدار علي نفسه تعهدا كتابيا بحفظ الأمن.
بدأت بعد ذلك وكعادة سلطات الاحتلال حملة من الاعتقالات وقبل أن ينقضي يوم الثلاثاء كان قد تم القبض علي 44 شخصا أكثرهم صبية وفتيانا من الطبقة العامة, وأزيلت بقية المتاريس والحواجز التي كانوا قد أقاموا في بعض شوارع قسم الجمرك, غير أن ثورة أطفال الحجارة وما حدث خلالها خلقت ردود أفعال واسعة بعضها جاء من الأطفال أيضا وكانوا من تلاميذ المدارس هذه المرة.. فقد زار في 28 أكتوبر وفد من أبناء مدرسة راتب باشا دار الأهرام في الإسكندرية وأكبرهم لا يزيد عن 13 سنة ليبلغوا الجريدة أنهم أقتربوا احتجاجا علي معاملة الجنود للأهالي في حي رأس التين, وأنهم أرسلوا تلغراف احتجاج لرئيس الوزراء كلفهم خمسة عشر قرشا من مجموع ستة عشر قرشاونصف كانت كل مامعهم. وعلي الجانب الآخر من ردود الأفعال حدث من الأهالي في الإسكندرية فيما بدا في المظاهرات حاشدة ظلت تخرج من المرسي أبو عباس بعد صلاة الجمعة وعلي امتداد أربعة أسابيع. وقد بلغ عدد المصابين نحو الخمسين والقتلي سبعة.
لقد ظن الاحتلال أنه بقضائه علي العنف في مارس 1919 قد قضي علي الثورة المصرية إلا أن الشعب بكل فئاته بقيادة الوفد حول العنف إلي مقاومة لم تشهد مصر لها مثيلا.
ر