منذ الصغر وأنا أعشق القراءة. وطوال حياتي لم أتخيل نفسي إلا متلقية لما يكتبه الآخرون. ولكن منذ عشر سنوات اقتحمت مجال الصحافة مع ملحق وطني الدولي ومع ذلك ظللت أحتفظ بعين القارئ في كل ما أكتبه أو أحرره.
لذلك جاءت تجربة مشاركتي في المؤتمر السنوي للمؤسسات الصحفية في العالم من خلال المنتدي العالمي للمحررين الذي عقد في هامبورج بألمانيا في الفترة من 12 – 15 أكتوبر الجاري تجربة ثرية جدا, حيث اجتمع ما يقرب من 500 من العاملين في مجال الصحافة لمناقشة أحدث المتغيرات في هذا المجال. كانت وطني مدعوة للمشاركة في المنتدي من قبل برنامج تطوير الإعلام الذي يقدمه في مصر برنامج المعونة الأمريكية بالاشتراك مع وزارة التعاون الدولي ونقابة الصحفيين.
مدينة هامبورج ميناء ألماني عريق تمر خلاله بضائع أوربا من وإلي بحر الشمال ثم إلي باقي أنحاء العالم. والميناء يمتاز بالحركة الثقافية والديناميكية وتفخر المدينة بأنها أحد المراكز المهمة لحركة النشر في أوربا. وأقام عمدة مدينة هامبورج كريستوف آلهاوس عشاء علي شرف المشاركين في المؤتمر, وذلك في دار مجلس المدينة وهو مبني عريق رائع الجمال يعود إنشاؤه للقرن التاسع عشر ويزدان بلوحات فنية خلابة.
القلم الذهبي للحرية
بدأ المؤتمر بتقليد سنوي بتكريم شخصية أو مؤسسة صحفية ساهمت بقوة في تفعيل حرية الصحافة وذلك بمنح الفائز جائزة القلم الذهبي للحرية. وقام رئيس المنتدي العالمي للمحررين زافير فيدال فولك بإعلان الفائز هذا العام وهو الكاتب الصحفي الإيراني أحمد زيد عبادي الذي تم القبض عليه ضمن 110 صحفيين عقب الانتخابات الإيرانية في 2009 وهو الآن يمضي فترة عقوبة ست سنوات في السجن. وتسلم الجائزة نيابة عنه الصحفي والكاتب الإيراني الشهير أكبر جانجي الذي أمضي بدوره ست سنوات خلف القضبان في إيران بسبب آرائه الحرة وكان الفائز بالقلم الذهبي للحرية لسنة .2006
انتقل المنتدي بعد ذلك إلي جدول أعماله الذي حفل بالجلسات ومناقشات الدائرة المستديرة لكل ما يهم العاملين بالصحافة. غطت الموضوعات محاور مستقبل الصحافة المطبوعة والإلكترونية, مصادر التمويل الصحفي, الجديد في الصحافة الإلكترونية, نحن وجوجل, وما يطلق عليه صحافة المواطن. شارك في الفعاليات لفيف من شخصيات الصحافة العالمية جانيت روبينسون من النيويورك تايمز, جيوفاني دي لورنزو من دي تزايت الألمانية, سيلفي كاوفمان من لوموند الفرنسية, وفيليب شندلر ومادهاف تشينابا من جوجل. وشارك من مصر عبدالمنعم سعيد من الأهرام.
إذا أردت أن تكون عالميا.. كن شديد المحلية
بدأ المؤتمر بعرض المشكلة التي تواجه الصحف علي مستوي العالم. والمشكلة ليست كما توهم الكثيرون انخفاض أرقام التوزيع أو الاشتراكات. فقد كشفت الجلسات علي أن هناك نموا في أرقام توزيع الصحف العالمية وخاصة الأوربية والآسيوية. ورغم أن الأزمة الاقتصادية والعالمية أثرت بالسلب علي إيراد الإعلانات, فإن الصحف استطاعت أن تتغلب علي ذلك بضغط المصروفات وتكاليف الإنتاج.
وهنا كان السؤال: أين المشكلة إذا كانت الصحافة مازالت عملية تجارية رابحة؟
المشكلة أن متوسط سن قراء الصحف الورقية يرتفع عن 45 عاما. أي أن الشباب من القراء لا يقبلون علي قراءة الجرائد والمجلات المطبوعة ويفضلون الصحافة الإلكترونية علي الإنترنت والأجهزة المحمولة التي تتزايد بصورة كبيرة بالدول النامية. وهناك العديد من الأجهزة الحديثة التي تعمل في هذا المجال منها الآي باد iPad والتابلت Tablet.
اتفق الجميع علي أنه لا مفر إذا أرادت الصحافة أن تستمر وتنمو أن تتحول إلي الفضاء الإلكتروني. وهناك بالفعل صحف أمريكية توقفت ورقيا واكتفت بالنسخ الإلكترونية التي يتكلف إنتاجها مبالغ أقل بكثير من الصحف الورقية.
وهنا يبرز تساؤل مهم يقول هل المادة الصحفية التي تقدم إلكترونيا تكون علي نفس مستوي المادة التي تقدم في الصحف المطبوعة؟ وكانت الإجابة بـلا. وذلك لاختلاف الوسيط الناقل للمادة وأيضا اختلاف طبيعة القارئ. فقارئ الإنترنت والمحمول يفضل المواد المواكبة والمختصرة وتوفر المواد علي الإنترنت بغزارة يجعل المنافسة بين الصحف شرسة. فالأخبار تعرض علي الإنترنت في نفس لحظة الحدث تقريبا. إذن المجال الوحيد الذي يمكن لموقع إلكتروني أن يتميز فيه هو التخصص في إصدار المواد المتعلقة بقرائه وبالمنطقة التي يمتد فيها تأثيره. فكلمة السر هنا إذا اردت ان تكون عالميا لابد أن تكون محليا. والأكثر بل شديد المحلية. والنصيحة المتكررة علي ألسنة المتخصصين للصحف وللمواقع الإلكترونية هي اعرف قارئك جيدا. قدم له ما يهمه وما يهم العالم أن يعرفه.
من يدفع التكلفة؟
انتقل المؤتمر إلي محور آخر وهو التكلفة. فالصحافة الجيدة مكلفة. فمن يدفع التكاليف؟ هل تكون المواقع الإلكترونية مجانية أم باشتراك ولو جزئي حيث يدفع القارئ ثمن موضوعات بعينها, بينما تتاح له بعض الموضوعات الأخري مجانا؟
فلاشك أنه لا يمكن أن تستمر المواقع الصحفية مجانية وذلك حتي تستطيع الاستمرار في تقديم مادة متميزة.
إذا كان المؤتمر قد حمل عنوان سنة التابلت وهو الجهاز الذي يتيح إمكانية عرض الصور بجودة مذهلة في دقتها وجمالها. إلي جانب المادة الصحفية الواضحة الأمر الذي جعل بعض الصحف العالمية تنتج موادا خصيصا للتابلت مقابل اشتراك, ولأنه جهاز مرتفع الثمن فإن من يملكونه قادرون علي دفع اشتراكات مما لا يجعل هناك مشكلة في إنتاج مواد خاصة لهم.
ختام هذا المؤتمر قد يحمل للبعض أننا نودع الصحافة الورقية, لكنه ظن خاطئ. فالصحف الورقية باقية ولن تختفي علي الإطلاق. فكما لم تقض السينما علي المسرح ولم يقض التليفزيون علي كليهما بل حدث تعايش بين الجميع, كذلك سوف تبقي الصحف الورقية جنبا إلي جنب مع الصحافة الإلكترونية. ففي المستقبل متسع لجميع أشكال الصحافة وليس علي الصحفي إلا أن يكون مخلصا في عمله عاشقا له… ودع كل الزهور تتفتح.