القلب يبكي ليس فقط الضحايا المسفوك دماؤهم,وهم خارجون من الكنيسة ليلة عيد الميلاد,ولكنه يبكي وطنا يتمزق ويستحيل نسيجه إلي خرق مهترئة ممزقة ,فالذي فعله هؤلاء المجرمون من قتلوإيراق الدماء وما فعله المحرضون الذين زينوا للقتلة القتل و حضوهم عليه وأصاب قلب الوطن في مقتل فقتل مواطنين عزل أبرياء في وطنهم في عقر دارهم,وعدم مقدرة الدولة علي حماية وضمان سلامة هؤلاء المواطنين,إنما هو في الحقيقة قتل وذبح وتمزيق للوطن!لأن الوطن يعني ضمان الحقوق والأمن والآمان والسلام والحماية!
يبكي القلب علي قتل وذبح المواطنة,فالرصاص القاتل الذي وجهه القتلة الآثمون لم يغتل فقط الأرواح البريئة ولكنه اغتال معهم مفهوم المواطنة !ذلك المفهوم الذي يفرق بين دولة تنتمي إلي العصور الوسطي ودولة أخري تنتمي إلي عصرنا الحديث.في الدولة الأولي تقوم العلاقة بين الحاكم والمحكوم علي مفهوم الرعية فالرعايا في هذه الدولة ليسوا بمواطنين,فهم مجرد رعايا للحاكم المستبد المتسلط,وهذا يعني أنه لاحقوق لهم إلا بمقدار ولائهم وخضوعهم له.في حين أن دولة المواطنين الحاكم فيها مواطن ضمن جموع المواطنين,والعلاقة بينه وبين المحكومين علاقة ينظمها القانون الذي يقر وينص علي حقوق المواطنين والتي لايستطيع الحاكم أن يتجاهلها والمأساة التي حدثت في نجع حمادي عشية عيد الميلاد,هي مأساة وأد المواطنة التي تعني الحق في العبادة,الحق في الطمأنينة والأمن والسلام ,الحق في صون وحفظ الحياة والممتلكات.
وفي المجزرة الحادثة ليلة عيد الميلاد يبكي القلب خطابا دينيا ينتمي إلي العصور الوسطي المظلمة,خطاب يوسع ويعمق الهوة التي بينه وبين العصر الذي نعيشه… خطاب يعيد إنتاج واجترار فقه معاملة غير المسلمين في التراث الإسلامي,ذلك الفقه الذي كان ومازال يري في الآخر غير المسلم مجرد ذمي,ليس له حقوق الرعايا المسلمين وعليه دفع الجزية وهو صاغر.
أقول إنه خطاب تحريضي ضد الآخر غير المسلم تشيع فيه تصورات عن دونية وعدم مساواة غير المسلم بالمسلم ومن ثم احتقاره بل وتكفيره وبالتالي مشروعية إهدار دمه وماله وعرضه!هذا الفقه الذي عفا عليه الزمن هو السائد في المؤسسة التعليمية المنوط بها إعداد الدعاة والأئمة,الأمر الذي يعني أنه يشكل جوهر الخطاب الديني في المساجد والزوايا المنتشرة في ربوع البلاد.وحين يذهب الناس إلي المساجد للصلاة ويسمعون من الخطيب,الذي يثقون بعمله حديثا سلبيا محملا بالكراهية وتسفيه الآخر المختلف في العقيدة ,تري ماذا يكون وقع خطاب الكراهية علي نفوسهم؟!ولك أن تتصور مشاعر الاحتقار والكراهية والرغبة في التخلص من هؤلاء الكفرة التي تتملك نفوس المصليين.
وفي عمق الفاجعة التي حدثت ليلة عيد الميلاد يبكي القلب علي نظام تعليمي كان يرجي منه أن يؤصل فينا القدرة علي التفكير الناقد الموضوعي ,وينمي فينا روح الابتكار والاختراع وإيجاد حلول جديدة,وأن يربي فينا حب الوطن ويعزز مفهوم المواطنة وقبول الآخر ويجلو حقوق وواجبات المواطنين ويهييء النفوق للعيش المشترك وإذا به في الواقع ينمي فينا ملكة الحفظ والاستظهار والتلقين,فلا تفكير ولا إبداع ولا ابتكار !ويزخر بدروس التفريق بين المواطنين ويحض ضمنا علي عدم قبول الآخر من خلال نصوص اختيرت عمدا مع نفي وتغييب لحقب ومراحل من تاريخنا القومي لذات الغرض والهدف .
في الأحداث الدامية عشية عيد الميلاد يبكي القلب علي إعلام كان يؤمل منه نشر الوعي والإعلاء من قيمة العقل والترويج للقيم الحضارية من تنوير وديموقراطية وتسامح علمانية!ولكنه بدلا من ذلك ينشر خطابا غوغائيا ينفي العقل لصالح الخرافة,ويعزف علي أوتار التمييز بين المواطنين ونفي الآخر,ويعادي القيم الحضارية من تنوير وتسامح وعلمانية!
يا قلب باك تمزق الوطن وتهافت مفهوم المواطنة وخطابا دينا يعيد إنتاج التخلف وكراهية الآخر,ونظام تعليميا يقتل فينا ملكة العقل ويغرس فينا التمييز بين المواطنين وإعلام يعملا لصالح الخرافة وإلهاء الناس ووأد العقل ومن علي منابره… يعمق مفهوم الكراهية ونفي الآخر والتحريض عليه… يا قلب أبك وانتظر الأسوأ والأظلم لأنه لم يأت بعد.
كاتب وباحث