نجع حمادي.. المدينة التي تحولت علي إثر رصاصات الغدر الطائشة ليلة عيد الميلاد إلي ثكنة عسكرية تضم بداخلها سرادقا للبكاء والصراخ وحلبة للصراع والعنف المضاد, وشوارع يسكنها الهدوء الذي يسبق عواصف المظاهرات الغاضبة…
ثلاثة أيام عاشتها وطني في قلب الأحداث لتخرج بحصيلة وقائع ومشاهد وأحاديث ستظل محفورة في الأذهان.
لحظة الوصول
توجهت الخميس يوم العيد إلي نجع حمادي حيث وصلتها فجر الجمعة… كانت المدينة تخلو من المارة بعد فرض حظر التجوال من الثامنة مساء الخميس حتي الثامنة صباح الجمعة بعد أعمال العنف التي اندلعت بين الأقباط والمسلمين عقب تشييع جنازة الضحايا وأسفرت عن تدمير ممتلكات من الجانبين, سرنا بشوارع المدينة الخالية من المارة من محطة القطار مرورا بكنيسة العذراء بشارع 30 مارس تحيطها قوات الأمن.
ذهبنا لمطرانية نجع حمادي للقاء نيافة الأنبا كيرلس الذي كان في الطريق للمطرانية عائدا من مطار الأقصر بعد مقابلة قداسة البابا ليلة الخميس لإطلاعه علي الأوضاع ودخل الأنبا كيرلس ليشرح ما حدث وكيف كان مستهدفا في هذه المذبحة.
وأثناء لقاء نيافته مع الإعلام بدأت خطبة الجمعة بالمسجد الملاصق للمطرانية وكانت الخطبة تركز علي تحريم القتل وإدانة الأديان السماوية لمثل هذه الأفعال التي لا تتفق مع الرسالة السماوية.
انتهي لقاؤنا بالأنبا كيرلس وخرجنا إلي الشارع عقب خروج المصلين وكانت المدرعات والأمن المركزي تنتشر أمام المطرانية والمسجد وتم وضع كمائن أمنية في الشارع, وجاء أعضاء مجلسي الشعب والشوري يتحدثون لوسائل الإعلام فاقتربت من النائب فتحي قنديل وسألته عن أسباب الجريمة فقال لي: محدش عارف يمكن الشخص عنده عقد نفسية واحنا بنرفض اللي حصل لأننا كلنا إخوة… الجميع كانوا يتحدثون عن كلمات تستخدم في هذه المناسبات من نوع: إن مصر مستهدفة ونشكر الأمن الذي يقوم بواجبه وسيادة المحافظ, ونحن وحدة واحدة وسوف نظل إخوة مهما حدث.. هذه الكلمات حفظها الأطفال لكثرة ترديدها لكني لم أسمع أحدا يتحدث عن القانون ومعاقبة الجناة أو أحداث حرق ونهب متاجر الأقباط بفرشوط. زميل صحفي قال: مش عارف الناس بتضحك علي نفسها ولا علي مين.
مرت الساعات حتي جاءت الساعة السادسة مساء الجمعة عندما كنا داخل المطرانية وسمعنا أصوات هتافات وخرجنا مع نيافة الأنبا كيرلس وبعض الكهنة وإذا بمجموعة من الشباب القبطي يصل عددهم إلي نحو 250 شابا يهتفون ضد الأجهزة الأمنية والمحافظ لتقصيرهم في حماية الأقباط ويهتفون للشهداء ضحايا المذبحة ويطالبون برحيل مجدي أيوب محافظ قنا وعودة المحفاظ السابق اللواء عادل لبيب محافظ الإسكندرية الحالي الذي كان يتمتع بحب الأقباط.
جاء مدير أمن قنا اللواء محمود جوهر وانضم للأسقف في محاولة لإقناع الشباب الغاضب أن يرحل, الغريب أن مدير الأمن استفزهم أكثر من تهدئتهم عندما قال لهم أنا حاسس بيكم والجاني هياخد عقابه بس إحنا مش لازم ننسي الجريمة البشعة اللي قام بها الشاب القبطي باغتصاب الفتاة, وكأنه يعطي مبررا للجريمة, وبعد محاولات من جانب الأنبا كيرلس اقتنع الشباب بأن يعودوا إلي منازلهم لكن الأمر سرعان ما تحول إلي مشهد مؤلم عندما قام الأمن باحتجاز الشباب وبدأ في اعتقال أعداد منهم.
استرحنا لعودة الأقباط للمنازل خوفا عليهم من اشتباك المسلمين معهم أو تعرضهم للاعتقال بعد زيادة التعزيزات الأمنية أمام الكنيسة وإن كان الكثير من الأقباط ظل بشرفات المنازل وأسطحها يراقبون الموقف وأثناء ذلك جاءتنا أنباء عن تفجر مصادمات بين الشرطة وأقباط قرية الرحمانية التي تبعد عن نجع حمادي 7كم لأنه من بين الضحايا الستة الذين سقطوا في نجع حمادي قبل يومين ثلاثة من الرحمانية وأن هناك غضبا ضد الشرطة التي استخدمت القنابل المسيلة للدموع ومدافع المياه لتفريقهم, ذهبنا إلي هناك وحاولنا الدخول ولكن الشرطة قامت بغلق الطريق المؤدي للقرية ولم يتسن لنا الدخول.
لم نستطع ملاحقة الأحداث المتتالية التي انفجرت في آن واحد في أماكن متفرقة.. تعبنا من الحركة والتنقل والاصطدام بالأمن وسماع البكاء والصرخات والاستغاثات. إنها ليلة عصيبة عاشتها هذه المدينة وها قد بلغنا الساعة الواحدة والنصف بعد منتصف ليل الجمعة ونحن نتلقي استغاثات كل دقيقة من شخص مختلف بمهاجمة منزله أو متجره, ولم يكن أمامنا سوي إبلاغ النجدة والأمن للتدخل لإنقاذ الأقباط من الهجوم الغاشم عليهم.
انقضي يوم السبت في كابوس متواصل من متابعة تداعيات الأحداث ومن تعقب لقاءات المسئولين بنيافة الأنبا كيرلس وعلي رأسهم اللواء مجدي أيوب محافظ قنا.
وأعود للقاهرة يوم الأحد, ولا أنسي ما عشته من أحداث وما لمسته في قلوب وعيون الناس فهناك تسود ثقافة الكراهية بشكل غير معتاد وتنذر بأن الأوضاع قد تعود للانفجار في أي لحظة لأقل الأسباب, فهناك شحن واحتقان وغياب فكرة التسامح وقبول الآخر والتعايش المشترك.. لا يوجد سوي العنف والقتل وحرق المنازل والكراهية. أشعر بالخوف من الأيام المقبلة إذا لم تحدث انتفاضة لإعادة تصحيح الأوضاع وتطبيق القانون وردع كل من يخطئ في حق المجتمع والقانون, فالمواطنة هي الحل والقانون هو الحصن المنيع لهذا الوطن والتعليم يجب أن يكون المنظور المقبل لتنقيته وتنقية القائمين عليه.