يبدو النقاب في مظهره قضية هامشية,لاتحظي بالأولوية علي الأجندة الوطنية المصرية,غير أن المتأمل لجوهرها,وأبعادها الفكرية والسلوكية يري أنه لايمكن تجاهل خطورتها,كون النقاب علامة دينية تمييزية,ومظهرا من مظاهر المد الأصولي الذي لم يعد خافيا علي أحد,في ظل المحاولات المتواصلة لحصار العقل ونشر الفكر الرجعي وثقافة البداوة,خاصة بين الشباب الذي من المفترض كونه وقود التغيير والمنوط به عملاية إعادة البناء علي أسس من الفكر الحر والإبداع والتواصل مع المنجز العالمي التقدمي,لا مباديء السمع والطاعة العمياء وتغييب العقل والإرادة المشلولة واتخاذ القدوة من مرجعيات ماضوية ورجال كهنوت,لا علماء ومفكرين أحرار.
من هنا تنبع أهمية خوض معركة النقاب وعدم التهوين منها,لأنها ليست سوي مواجهة لشرور الأصولية المحدقة بنا,ومحاولات تدين المجتمع,وليس تمدينه,وذلك بشكل قصري مناف لديناميات التطور المجتمعي واستحقاقاته. وعلينا أن ندرك أن مصير هذه الأمة رهن بالتخلص من الديكتاتورية السلطوية والأصولية في ذات الوقت,فكلاهما إذا ظل فاعلا ويحدث أثره في المجتمع,فأنه يشل حركته ويجعله يدور في نفس المربع الخاوي أو يتراجع إلي الوراء,ومن ثم يصبح الاضمحلال بديلا عن النهضة,ويصير الظلام والتخلف بديلا عن التنوير والتقدم.
ويؤسفني أن أقول إن النخبة المثقفة تتخاذل في مواجهة المد الأصولي المستوحش,أما جبنا أو قصورا في الرؤية وتقليلا من خطورة تحركات القوي الرجعية,ولعل المعركة الأخيرة خير شاهدة علي ذلك,ففي الوقت الذي خرج مئات الإسلاميين في تظاهرات,لم نر-في المقابل-مظاهرات القوي العلمانية,وبينما يعبيء الإسلاميون جماهيرهم في ساحات الإنترنت والإعلام والندوات,خفت صوت التقدميين أو تجاهلوا الأمر,وعجز مثقفونا عن تقديم خطاب علماني تقدمي يحمل ملامح نهضوية في مقابل خطاب الانغلاق والرجعية المتعالي النبرة ,الأسوأ من هذا أن بعضهم وقع في فخ الدفاع عن المنتقبات وحقوق الرجعيين تحت ذريعة الحرية الشخصية ,وكأننا نتناسي مبدأ أنحق المجتمع ومصلحته مقدم علي حق الفرد ومصلحتهفي كل بلاد الدنيا.
وفي تصوري أنه لايجب التسامح مع الخطاب المتهافت المنافق عن الحرية الشخصية,فليس مقبولا بأي شكل من الأشكال ارتكاب جرائم باسم الحرية.وحين يتعلق الأمر بهوية المجتمع المدنية والخطر التي يتهددها ويسعي لتشويهها ,فيجب عدم التسامح أو الارتباك أمام المحاولة الانتهازية لاستغلال خطاب الحريات من قبل أعداء الحريات,علاوة علي ضرورة المبادرة وعدم ترك الساحة للأصوات الرجعية وتفنيد دعواها وشن حرب مضادة لجهة نشر الوعي الصحيح وبيان فقه الأولويات ومتطلبات المجتمع العصري وثقافته الانفتاحية,لاعصر البداوة وطروحاته الانغلاقية,مع التأكيد علي أن التشدد الإسلامي يحرض علي تشدد مسيحي ومن ثم احتقانات طائفية ,فيما الأخلاق العامة أعم وأشمل وأهم من التدين المظهري وأن الأولوية يجب أن تكون للعمل ومواجهة سياسات القمع والإفقار.
ولاشك أن الرهان علي النظام ورموزه في مثل هذه المعارك -تحديدا-من السذاجة بمكان إذ أنه بمؤسساته السياسية والدينية يقدم ساقا ويؤخر أخري,ولا يعرف الحسم كلما اقترب من التابوالديني ونراه يرتبك سريعا,ويتراجع أمام احتجاجات الإسلاميين,لأنه هو ذاته شريك لهم في العمل علي استدامة الأوضاع القائمة,بل وترديها بحكم البنية المحافظة ذات النهج التسلطي التي ينطلقان منها,فضلا عن أنه ليس جادا في خوض معركة حقيقية لمواجهة المد الديني لحساب التنوير والتغيير الشامل والعبور إلي الدولة المدنية التي يحكمها العقد الاجتماعي ومبدأ المواطنة والديموقراطية الحقة والعدالة الاجتماعية,لأن الدين لديه ورقة يتلاعب بها وقتما يشاء حسبما تقتضي مصالحه الضيقة ولو علي حساب مصالح الوطن والمواطن ومن ثم يحافظ عليها ولايسعي لإحراقها أبدا.
وبحساب المكسب والخسارة,فإن الرابح من هذه المعركة هو النظام المصري الذي وجد قضية يتلهي بها الناس عن ملفات أكثر إلحاحا,أما الرابح الأكبر فهم الإسلاميون,وفي مقدمتهم الإخوان المسلمون الذي حشدوا منتسبيهم وأنصارهم في الشارع والجامعات بل والبرلمان ووسائل الإعلام,ليسجلوا نقاطا تضاف إلي رصيدهم الشعبي وليعلنوا انتصار مؤسستهم علي المرجعية الدينية الرسميةالأزهرالتي لطالما طرحوا أنفسهم بديلا عنها.
أما الخاسر الوحيد فهو الشعب الذي يقف صامتا بينما مجتمعه يتلقي ضربات موجعة في عقله الجمعي ووجدانه,ويساق إلي حافة التطرف وعصور الظلام,وتسرق منه فرص التطور والانفتاح ومناخ الحريات العامة.
ولاشك أن الصامتين سيدفعون الثمن باهظا مستقبلا جراء تقاعسهم عن مناهضة الأصولية,فالصمت ليس إلا علامة جبن أو رضا علي هذه الجريمة التي ترتكب بحق هذه البلاد علي يد نخبة انتهازية توظف الدين لمضاعفة حصتها من المكاسب المادية والمعنوية ,ولو كان المقابل تدمير ثقافة ومستقبل بلد وإرجاعه إلي العصور الوسطي.
*كاتب صحفي مصري