تواجه سورية التي كانت تعد إحدي أكثر الدول صلابة في الشرق الأوسط ومحورا أساسيا في منظومة القوي الإقليمية, دمارا شاملا. ومن المرجح أن تكون عواقب هذه المأساة المستجدة كارثية علي وحدة أراضي سورية وعلي
تواجه سورية التي كانت تعد إحدي أكثر الدول صلابة في الشرق الأوسط ومحورا أساسيا في منظومة القوي الإقليمية, دمارا شاملا. ومن المرجح أن تكون عواقب هذه المأساة المستجدة كارثية علي وحدة أراضي سورية وعلي سلامة شعبها وعلي السلام الإقليمي وعلي مصالح القوي الخارجية المعنية بعمق بهذه الأزمة. ويكمن الخطر الفوري في أن يطلق القتال في سورية إلي جانب الضغوط الكبيرة التي يتعرض لها حليفها الإيراني حاليا, شرارة حريق هائل لن يسلم منه أحد.
كيف وصلت الأمور إلي هذا الحد؟ تتحمل كل جهة فاعلة في الأزمة جزءا من المسئولية. تعد سورية ضحية مخاوف أعدائها ورغباتهم, إلا أنها ضحية أخطاء قادتها أيضا.
وبالنظر إلي مجري الأحداث الماضية, من الواضح أن الرئيس بشار الأسد فوت فرصة إصلاح الدولة الأمنية الضيقة التي ورثها عن والده عام .2000 وبدلا من أن يقر الأسد بالحاجة إلي الحريات السياسية والكرامة الشخصية والفرصة الاقتصادية التي شكلت رسالة ربيع دمشق خلال العام الأول علي توليه السلطة ويوسع منها, ضيق الخناق أكثر وأكثر.
فتم تعزيز الرقابة الخانقة علي كل وجه من وجوه المجتمع السوري وتشديدها إلي حد لا يطاق نتيجة الفساد الواضح والامتيازات التي حظيت بها قلة من الأشخاص والمحن التي عاني منها الكثيرون. فبات القمع الجسدي ممارسة يومية. وبدلا من تطهير جهازه الأمني ووضع حد للعنف الذي تمارسه الشرطة وتحسين أوضاع السجون, أدت اعماله الي ان يصبح مكروها أكثر من أي وقت مضي.
فضلا عن ذلك, وعلي مر العقد الماضي, أخفق بشار الأسد ومستشاروه المقربون في إدراك الطابع الثوري لتطورين أساسيين هما التفجر السكاني في سورية وموجة الجفاف الطويلة التي ضربت البلد من عام 2006 لغاية عام 2010 علما أنها الأسوأ منذ مئات السنوات. وأدي التطور الأول الي ان مجموعة من الشباب من أنصاف المتعلمين كانوا عاجزين عن إيجاد الوظائف فيما أدي التطور الثاني إلي نزوح قسري لمئات آلاف المزارعين من حقولهم الجافة باتجاه الأحياء الفقيرة المحيطة بالمدن الرئيسة. وخسر الرعاة في شمال شرقي سورية 85% من ماشيتهم. كما تشير التقديرات إلي أن نحو مليونين أو ثلاثة ملايين سوري وقعوا في فقر مدقع مع حلول عام .2011 ولا شك في أن التغير المناخي كان مسئولا عن ذلك, إلا أن إهمال الحكومة وعدم كفايتها فاقما من هذه الكارثة.
شكل هذان العاملان, أي بطالة الشباب والنزوح الريفي, المحركين الأساسيين للانتفاضة التي انتشرت بسرعة فائقة عقب اندلاعها جراء حادث وحشي وقع في مدينة درعا في شهر مارس .2011 أما الذين كانوا وراء الانتفاضة فهم شباب المدن العاطلون من العمل ومزارعون فقراء.
هل كان النظام قادرا علي القيام بشيء حيال هذا الموضوع؟ نعم, كان في وسعه ذلك. في نهاية عام 2006 وبداية عام 2007, كان في وسعه تحذير العالم من الوضع وتخصيص كل الموارد المتاحة لخلق فرص عمل ولإطلاق برنامج إغاثة مكثف لشعبه المنكوب وحشد جهود مواطنيه لإنجاز هذه المهام. ولا شك في أن هيئات المساعدة الدولية الأساسية ودول الخليج الثرية كانت ستقدم يد العون لو تم وضع تلك الخطط.
بدلا من ذلك, تلهي النظام بالمخاطر الخارجية مثل الأزمة اللبنانية عام 2005 التي أعقبت اغتيال رفيق الحريري ومحاولة إسرائيل تدمير حزب الله عبر اجتياحها لبنان عام 2006 فضلا عن الهجوم الذي شنته إسرائيل علي منشأة سورية النووية عام 2007 ومحاولتها تدمير حركة حماس عبر شن هجوم قاتل علي قطاع غزة في نهاية عام 2008 وبداية عام .2009
ومنذ تسلم بشار الأسد زمام السلطة, واجهت سورية مساعي مستمرة من إسرائيل وحليفها الأمريكي المتواطئ معها لإسقاط ما سمي محور الممانعة الذي يضم طهران ودمشق وحزب الله والذي تجرأ علي تحدي الهيمنة الإقليمية لإسرائيل والولايات المتحدة.
وأفلتت سورية من تلك الهجمة بصعوبة في عامي 2003 و2004, إذ كان المحافظون الجدد الموالون لإسرائيل في إدارة جورج بوش الابن عازمين بقيادة بول وولفويتز في وزارة الدفاع علي إعادة تشكيل المنطقة لخدمة مصلحة إسرائيل وأمريكا. وكان هدفهم الأول هو الرئيس العراقي صدام حسين الذي اعتبر أنه يشكل خطرا محتملا علي إسرائيل. ولو نجحت الولايات المتحدة في العراق لكانت سورية هي التالية. لم يتعاف العراق ولا الولايات المتحدة حتي الآن من حرب العراق الكارثية التي كان وولفوفيتز مهندسها الرئيس.
تواجه سورية وحليفها الإيراني خطرا كبيرا. ولا تخفي الولايات المتحدة ولا إسرائيل هدفهما إسقاط نظامي دمشق وطهران. ولا شك في أن بعض الاستراتيجيين الإسرائيليين يعتبرون أن تقطيع أوصال سورية وإضعافها عبر إنشاء دولة علوية صغيرة حول ميناء اللاذقية شمال غربي البلد بالطريقة نفسها التي تم قطع أوصال العراق وإضعافه من خلال إنشاء المنطقة الكردية في الشمال وعاصمتها أربيل, يصب في مصلحة بلدهم. وليس سهلا أن تكون أي دولة الي جوار دولة يهودية توسعية وعدائية تعتبر أن ضمان أمنها لا يتم من خلال عقد اتفاقية سلام مع الدول المجاورة لها بل من خلال إخضاعهم والإخلال باستقرارهم وتدميرهم بمساعدة القوة الأمريكية.
ليست الولايات المتحدة وإسرائيل العدوتين الوحيدتين لسورية. فقد كانت جماعة الإخوان المسلمين تحلم بالثأر منذ محاولتها منذ 30 سنة إسقاط نظام البعث العلماني في سورية عبر حملة إرهاب قمعها الرئيس حافظ الأسد في حينه. واليوم, تكرر جماعة الإخوان المسلمين الخطأ نفسه الذي اقترفته حينها من خلال اللجوء إلي الإرهاب بمساعدة تنظيمات سلفية قادمة من الخارج, بمن فيهم مقاتلون مع تنظيم القاعدة يتدفقون إلي سورية من العراق ومن لبنان ومن تركيا ومن الأردن ومن الدول الأخري البعيدة عن حدودها. ويوفر الأعضاء الليبراليون في المعارضة السورية الموجودون في المنفي بمن فيهم أكاديميون مرموقون ومعارضون محنكون التغطية السياسية لهذه العناصر الاكثر تطرفا.
ولا تزال بعض دول الخليج العربية تنظر إلي المنطقة من منظار مذهبي. فهي قلقة من طموحات إيران المزعومة للهيمنة. حتي أنها غير راضية لأن العراق الذي كان قوة سنية قادرة علي السيطرة علي إيران بات تحت قيادة شيعية. كما يبدو أن الحديث عن الهلال الشيعي يهدد الهيمنة السنية. لهذه الأسباب, تمول هذه الدول وتسلح السوريين علي أمل أن يؤدي إسقاط النظام السوري إلي قطع روابط إيران بالعالم العربي. غير أن هذه السياسة تساهم في إطالة معاناة سورية وفي التسبب بمقتل أبرز رجالها وبضرر مادي كبير.
وارتكبت أمريكا, القوة الخارجية المهيمنة أخطاء سياسية فادحة. فعلي مر العقود القليلة الماضية, أخفقت في إقناع حليفها الإسرائيلي المتعنت بإبرام اتفاقية سلام مع الفلسطينيين من شأنها أن تؤدي إلي سلام مع العالم العربي برمته. وخاضت حربين كارثيتين في أفغانستان والعراق. وأخفقت في التوصل إلي صفقة كبيرة مع إيران من شأنها إبعاد شبح الحرب في الخليج وفرض الاستقرار في منطقة هشة. كما أنها علي خلاف حاليا مع موسكو وتعيد إحياء الحرب الباردة من خلال تقويض خطة كوفي أنان للسلام في سورية.
لا يمكن حل الأزمة السورية عسكريا. أما الطريقة الوحيدة للتخلص من هذا الكابوس الحالي فيجب أن تكون من خلال إجبار الطرفين علي وقف إطلاق النار, تلي ذلك مفاوضات وتشكيل حكومة وطنية للإشراف علي العملية الانتقالية. وحينها فقط, يمكن سورية أن تتفادي الدمار الشامل الذي قد يستغرق إصلاحه جيلا أو جيلين.
* كاتب بريطاني مختص في شئون الشرق الاوسط
* نقلا عن جريدة الحياة اللندنية