الإنسان الروحي إنسان عميق في كل شيء .حياته الروحية تبعد عن السطحية والشكلية,وتدخل في عمق الصلة بالله,وعمق العلاقة معه.لذلك نري الإنسان الروحي عميقا في صلاته وفي كل عبادته عميقا في خدمته,عميقا في عطائه وفي محبته.عميقا في توبته,في غيرته,في إيمانه.عميقا في تفكيره ,في ذكائه في حديثه,عميقا في كل عمل يعمله.
وسنحاول أن نتتبع هذا العمق:
0 العمق في الصلاة:
إنها صلاة تخرج من عمق قلبه,لتصل إلي عمق قلب الله ليس المهم في طولها,ولا في انتقاء ألفاظها ,وإنما ما فيها من عمق الإ يمان,ومن عمق الخشوع,ومن عمق الفهم ومن عمق الاتضاع..ولقد تأثرت كثيرا من قول داود النبي في المزمور الذي جعلته الكنيسة أول مزامير النوم,وهو يقول فيه:
من الأعماق صرخت إليك يارب.يارب استمع صوتيمز130:1.من عمق قلبي طلبتك,مز119من عمق احتياجي إليك من عمق ضعفي وعجزي ,من عمق تعبي وعدم قدرتي .من عمق الهاوية التي أنا واقع فيها.من عمق استغاثتي صرخت إليك يارب,لأنك أنت الملجـأ الوحيد الذي ألجأ إليه .من عمق الثقة بقدرتك أنا صارخ إليك من عمق إيماني بقدرتك وباستجابتك.
مثل صلاة يونان وهو في بطن الحوت.
أي عمق تراه كان في صلاته ,وليس غير الله الذي يستطيع أن ينقذه..أو كصلاة الشعب عند جبل المقطم:أما أن يتدخل الله,أو تحدث كارثة ليس سواه الذي يلجأ القلب إليه يصرخ القلب إلي الله كصرخة غريق إلي قارب نجاة.
هناك صلوات كانت قصيرة وعميقة..عميقة في قوتها وفي فاعليتها.مثل صلاة اللص اليمين ,في آخر ساعات حياته ,والموت ينتظره بعد قليل …قال جملة واحدة من عمق القلب وعمق الإيمان .واستطاع بهذه الصلاة القصيرة ,أن ينال من الرب وعدا بدخول الفردوس.لو23:43.ومثل صلاة العشار,وهي جملة قصيرة ,ولكنها كانت عميقة في اتضاعها وانسحاقها وتذللها ,وليست في طول صلاة الفريسي المعتز بذاته .وبهذه الصلاة القصيرة العميقة خرج العشار مبررا دون ذاكلو18:13-14.
والصلاة العميقة لها صفات تتصف بها:
إنها ليست كلمات بقدر ماهي مشاعر ..فيها الاتضاع وانسحاق القلب والخشوع ,وفيها الحب والعاطفة ,وفيها الحرارة الروحية والإيمان وتتصف أيضا بالفهم والتأمل بحيث أن كل كلمة يقولها المصلي يقصدها بكل ما يحمل معناها من عمق يصليها الإنسان الروحي من عمق قلبه.فيتقدم واحد من الأربعين والعشرين قسيسا ويأخذها في مجمرته الذهبية ويصعدها إلي الله رائحة بخور مع صلوات القديسين..
مجرديارب ارحميقولها من قلبه,تكون أعمق من 41 مرة يقولها غيره كمجرد ألفاظ بغير عمق وبغير عاطفة ..
0 نفس الوضع نقوله عن عمق العبادة
من صوم ومطانيات وقراءة روحية وترتيل وتسبيح..ليس المهم في الكثرة أو في الظهر ,وإنما في عبادة يشترك فيها القلب بكل عواطفه ,ويشترك فيها العقل بعمق فكره وتشترك فيها الحواس أيضا فيصبح الإنسان كله مع الله
فالبعض قد يهمهم كثرة عدد المطانيات ,وليس ما يصحب المطانيات من مشاعر.
تنحني رؤوسهم ,دون أن تنحني نفوسهم بينما المرتل يقول في المزمورلصقت بالتراب نفسي,مز119ولم يقل:لصقت بالتراب رأسي..
الإنسان الروحي في كل عبادته يشعر بوجوده في حضرة الله.ويشعر بأنه يقدمها لله الفاحص القلوب والأفكار.
يدخل الكنيسة وهو يقول:أما أنا فبكثرة رحمتك أدخل إلي بيتك وأسجد قدام هيكل قدسك بمخافتكويعني في أعماقه كلمة رحمتك وكلمة مخافتك ,وكلمة بيتك…
وفي صومه لايقتصر علي صوم الجسد,وإنما في عمق يمارس أيضا صوم النفس.
فتشترك روحه مع جسده في الصوم.ولايكون صومه مجرد فضيلة جسدانية ويأخذ ما في الصوم من ضبط النفس ومن قهر الجسد ,ومن إطعام الروح بغذاء روحي أثناء الصوم.
علمنا الرب أن الصوم والصلاة يخرجان الشياطينمت17:21أتراه كان يقصد كل صوم!وكل صلاة؟!كلا,بل الصوم الذي له عمق خاص,والصلاة التي لها عمق خاص,والتي تحمل شعورا بالصلة مع الله…
كذلك القراءة ,ليس الأمر بكثرة ما تقرأه,وإنما بعمق ما تفهمه وما تطبقه.
الإنسان الروحي ربما يجد غذاء وشبعا في آية واحدة تدخل إلي أعماق فكرة وقلبه كلمة حية فعالة أمضي من كل سيف ذي حدينعب 4:12تتحول فيه
إلي روح وحياة يو6:63وهكذا ما يسمعه من كلام الله في الكنيسة يأخذه بنفس العمق الذي أخذ به الشاب أنطونيوس آية واحدة فغيرت حياته وأوجدت طقسا ملائكيا في الكنيسة.
0 العمق في العطاء:
ليس المهم في مقدار ما تعطي إنما في عمق هذا العطاء..ولعل أروع مثل في العطاء كان مثل أبينا إبراهيم الذي قدم ابنه وحيده الذي تحبه نفسه,الذي نال المواعيد من جهته ومع أن الله لم يسمح بأن يتم ذبح إسحق ,إلا أن النية كانت موجودة ,وبدأ التنفيذ فعلا…
فماذا كان العطاء في تقدمة إبراهيم لابنه إسحق؟
كان في ذلك عمق الحب لله إذ أحبه أبونا إبراهيم أكثر من ابنه الوحيد ابن المواعيد وكان في ذلك أيضا عمق الطاعة,إذ أطاع أمرا يبدو من الصعب تنفيذه بل تنفيذه يبدو ضد الطبيعة.كما ظهر عمق هذه الطاعة في الإسراع بتنفيذها ,إذ بكر إبراهيم صباحا جداتك22:3وكان في تقدمته أيضا عمق الإيمان والثقة ,لأنه آمن بأنه حتي لو ذبح إسحق ,سيقيمه الله ويقيم منه نسلا كنجوم السماء في الكثرةعب11:17-19. الأرملة ظهر عمق عطائها في أنها أعطت من أعوازها كل ما عندها كل معيشتهامر12:42-44فاعتبرها الله أنها أعطت أكثر من الكل لأنه لم ينظر إلي الكمية فلسينوإنما إلي عمق العطاء,إلي عمق مشاعرها وهي تعطي.ومثلها أيضا أرملة صرفة صيدا التي أعطت إيليا النبي حفنة دقيق وقليلا من الزيت ولكن الأهمية لم تكن في الكمية وإنما في عمقها لأنها فعلت ذلك في وقت مجاعة وكان ذلك كل مئونتها تأكله وتموت 1مل17:12وفضلت النبي علي نفسها…
كذلك الأنبا أنطونيوس أعطي كل ما يملك.
أعطاه للفقراء وعاش فقيرا وكان عمق عطائه في أنه أعطي الكل وفي أنه فضل الزهد وكانت محبة الله في قلبه أعمق من محبة المال وكل متاع الدنيا.
وهنا يمكننا أن نلخص عمق العطاء.
إبراهيم أعطي أعز ما يملك ..وأنطونيوس أعطي كل ما يملك..والأرملة أعطت من أعوازها ..ونضيف إلي هؤلاء :الشهداء الذين أعطوا حياتهم لأجل الرب..وعمق العطاء أيضا يظهر في أن الإنسان يعطي بفرح 2كو9:7وبسخاءرو12:8:3ويعطي حتي لأعدائه رو12:20ويعطي في الخفاء وينسي ما قد أعطاه مت6:3ويقول للهمن يدك أعطيناك1أي 29:14.
0 العمق في الخدمة
المسيحية بدأت كرازتها بهذا العمق,بعدد قليل من الخدام,اثني عشر رسولا من جهال العالم وضعفاته 1كو1:27ولكنهم خدموا بعمق.يقول القديس بولس الرسول بل في كل شيء نطهر أنفسنا كخدام الله,في صبر كثير,في شدائد,في ضرورات,في ضيقات,في ضربات,في سجون في,اضطرابات,في أتعاب,في أسهار,في أصوام..كمائتين وها نحن نحيا كحزاني ونحن دائما فرحون ..2كو6:4-10بأسفار مرارا كثيرة…في تعب وكد ..في جوع وعطش..في برد وعري..من يضعف وأنا لا أضعف..من يعثر وأنا لا ألتهب2كو11:26-29
بهذا العمق أمكن أن تمتد الكرازة وتنتشر.
حتي أن الذين تشتتوا من جراء الاضطهاد جالوا مبشرين بالكلمةأع8:4حتي في السجن كان القديس بولس يكتب رسائل وقد عمد حافظ سجن فيليبيأع16:33كانت الخدمة بعمق في جدية وأمانة والتزام والكلمة كان لها تأثيرها وقوتها ولاترجع فارغة إش55:11.
حتي في الطريق فيلبس يري الخصي الحبشي في مركبته فيبشره ويعمده ويتركه يمضي في طريقه فرحاأع 8:38.
البعض قد يقيس نجاح الخدمة بمقاييس خاطئة كعدد التلاميذ وكثرة الأنشطة ونمو المعرفة!!
أو يقيس ذلك بتنظيم الخدمة وإدارياتها وكراسات التحضير ونمو المكتبة والنادي والافتقاد ..وينسي أعمق ما في الخدمة وهو قيادة المخدومين إلي التوبة وإلي محبة الله والنمو في ذلك كما قيل عن الكنيسة في أيام الرسل وكان الرب في كل يوم يضم إلي الكنيسة الذين يخلصونأع2:47.
نجاح الخدمة ليس مظهرية وإنما هو عمق :وقد يوجد خادم بلا فصل وخدمته أعمق من جميع الخدام الذين يرتقون تدريجيا من تدريس ابتدائي إلي الجامعة ربما تكون له الخدمة الفردية التي يجتذب بها كثيرين إلي محبة الله,ويخلصهم من العوائق التي تقف أمامهم لتمنعهم من الحياة مع الله…ربما تكون خدمته في محيط الأسرة وإنقاذها من التفكك ومن الضياع ….ربما تكون خدمته في الافتقاد,يوصل الشباب إلي الكنيسة لينتظموا في اجتماعاتها دون أن يدرسهم بنفسه.
ربما تكون له خدمة مخفاة ولكنها عميقة,ربما تكون له خدمة لا يهتم بها أحد,ولكنها عند الله جوهرة كثيرة الثمن ..كخدمة الشواذ مثلا أو خدمة المعوقين أو خدمة المنحرفين ..ويبذل في ذلك جهدا كبيرا له عمقه الذي يعرفه الله لاباقي الخدام.
وعمق الخدمة قد يظهر في ثمارها.
مثل خدمة المعمدان في قصر مدتها.
خدمة في أقل من سنة ولكنها كانت عميقة جدا في نتائجها وتأثيرها وفاعليتها إ ذ أعد للرب شعبا مستعدا بالتوبة وكان الملاك الذي هيأ الطريق قدامه مر1:2-4لو1:17,16
وقد يكون عمق الخدمة في تأثير الكلمة التي تخرج من العمق إلي العمق وتغير القلب ..كلمة من خادم يسمعها السامع فلتصق به,في الكنيسة وفي الشارع وفي البيت وفي العمل حتـي في أحلامه ولاتتركه حتي تعمل في داخله ما يريده الله له إنها كلمة لاصقة لها عمقها..تلمس القلب وتلازمه وتبقي داخله ولايمكن أن يهرب منها .هنا عمق التأثير وليس مجرد التـأثير وليس مجرد الإعجاب بالكلمة.
0 عمق التوبة
الإنسان الروحي يكون عميقا في توبته فلا يعود إلي الخطية أو الضعف مرة أخري بل أكثر من هذا ينمو في حياة البر ممتدا نحو الكمال.وهكذا كانت توبة أوغسطينوس وموسي الأسود ومريم القبطية وأمثالهم الذين في عمق توبتهم تحولوا من خطاة إلي قديسين وعمق التوبة قد تصحبه الدموع والاتضاع مثل داود الملك الذي لم تفارقه دموعه مطلقا ومثل شاول الطرسوسي الذي في عمق خدمته وعظمته الروحية قال:أنا الذي لست مستحقا أن أدعي رسولا لأني اضطهدت كنيسة الله1كو15:-9ومثل المذلة التي صاحبت القديس يعقوب المجاهد 18 سنة أما الذين يتوبون ثم يعودون إلي الخطية فهؤلاء ليس لتوبتهم عمق..
لم يأخذوا التوبة بعمق ولا الاعتراف بانسحاق قلب وبقيت الخطية داخلهم وبقيت أسبابها تحاربهم ولم تتغير حياتهم ..وأصبحوا يعيدون اعترافاتهم!!
0 عمق الإيمان:
كثيرون يدعون أنهم مؤمنون ولا يكون لإيمانهم عمق وقد يهتز إيمانهم وسط الضيقة كما حدث لبطرس الرسول وهو ماش مع الرب علي البحر ..فوبخه الرب قائلا يا قليل الإيمان,لماذا شككتمت14:21.
الإيمان العميق قال عنه الكتاب إنه ينقل الجبال1كو13:2كل شيء مستطاع للمؤمنمر9:23من منا قد وصل إلي عمق الإيمان هذا؟ولذلك يقول القديس بولس الرسول جربوا أنفسكم هل أنتم في الإيمان؟امتحنوا أنفسكم2كو13:5.علي الأقل فليكن لنا من الإ يمان العميق ذلك الإيمان العامل بالمحبة غل 5:6الذي تظهر ثماره في حياتنا فيكون إيمانا حيا مثمرا عاملا.
0 عمق المشاعر:
الإنسان الروحي عميق في مشاعره:إذا خدم يكون حارا في الروح,ملتهب القلب في الخدمة له الغيرة المقدسة التي يقول فيهالا أدخل إلي مسكن بيتي ولا أصعد علي سرير فراشي ولا أعطي لعيني نوما ولا لأجفاني نعاسا ولا راحة لصدغي إلي أن أجد موضعا للرب…مز132:3-5.
وفي صداقته يكون له الحب والشوق والحنين إلي صديقه كالصداقة التي كانت بين داود ويوناثان وكمحبة يوحنا الذي تبع المسيح إلي الصليب.وإذا تاب تكون له مشاعر الخاطئة التي بللت قدمي المسيح بدموعها ومسحتهما بشعر رأسهالو7:38وإ ذا عطف تكون له مشاعر الأم نحو رضيعها محبة في عمق وعناية واهتمام وخدمة ورعاية….
0 عمق الشخصية:
الشخصية التي لها عمق في التفكير,وفي التدبير,عمق في الفهم وفي الذكاء كلمته لها عمقها وليست سطحية أو ضحلة.ذكاؤه له الشمول بحيث يفهم الأمر من جميع زواياه ومن جميع توقعاته ونتائجه.
إذا ذاكر أو درس أمرا يكون له عمق في الفهم وفي التركيز وعمق في الذاكرة وفي الاستنتاج,إذا قام بأي عمل يعمله في عمق كما كان يوسف في الإشراف علي تموين مصر,إذا ربي ابنه يعمل ذلك بعمق كما قامت يوكابد بتربية ابنها موسي قبل أن تسلمه لابنة فرعون ,تربية حفظته في الإيمان في وسط كل عبادات فرعون…
فليعطينا الرب عمقا في كل شيء.