أحد أهم حدائق القاهرة…لها مكانة خاصة في قلوب المصريين…وفيها سمعت آنات وزفرات,وقدمت الكثير للحركة الوطنية,كما أنها ارتبطت بكافة النهضات المصرية…هيحديقة الأزبكية وسميت أزبكية نسبة إلي الأميرسيف الدين أزبك بن ططخ الأشرفي الظاهريالذي حفر بركة في موقعبطن البقرةالقديم وأوصل المياه إليها من القناة الناصرية وأقام منتزها حول البركة وهو النواة الأولي لإنشاء الحديقة.
وازدانت الأزبكية بالقصور والدور الفخمة مساكن للأمراء كالأمير رضوان كتخدا الجلفي,والأمير الألفي بك الذي تحول قصره إلي مقر لقيادة الحملة الفرنسية وأصبح منزلا لساري عسكر الفرنسيين.. وحفلت الحديقة,بمواكب الاحتفالات الرسمية والشعبية كالمولد النبوي,وسكنتها في ذلك الوقت الطبقة البورجوازية كالشيخ عبدالله الشبراوي والشيخ عبدالله الشرقاوي وكبار التجار والبيوت ذات الشهرة مثل بيت البكرية ودار عثمان بك الأشقر التي تحولت إلي مطبعة للحملة الفرنسية وتولي إدارتها مسيو مارسيل المستشرق المعروف,كما ذكرها العالم الفرنسيجومار الذي صحب الحملة بقوله: مساحة الأزبكية فاقت مساحة ميدان لويس الخامس عشر (الكونكورد حاليا) ثلاث مرات…وعندما يصل فيضان النيل إلي ذورته في سبتمبر,تمتلئ بركة الأزبكية بالمياه التي يصل ارتفاعها لعدة أقدام,وعندئذ تصبح حوضا واسعا تغطيه المراكب التي تضاء أثناء الليل ويصبح المكان مشهدا مثيرا للإعجاب ويلحق بها حي الأقباط وقصر الألفي بك,ومنازل الشيوخ الأكثر ثراء.
وكانت البقعة الشاسعة المعروفة باسم الأزبكية أيام الفيضان مجرد بحيرة واسعة,فإذا انحسرت المياه أصبحت مأوي للكلاب ومسرحا للجرائم ومجتمعا للسوقة.
ولهذا أراد الخديوي إسماعيل أن يقضي علي هذا الفساد فقرر إنشاء الحديقة المعروفة الآن بحديقة الأزبكية…وشيدت الحديقة بتكليف من الخديوي للمهندس الفرنسي باريل ديشان-الذي كان مسئولا عن بستان باريس- بتصميم وتنفيذ حديقة الأزبكية فشيدها علي نمط حديقة مونسو وريفولي بباريس علي مساحة عشرين فدانا,وزودت بـ 2500 مصباح غاز,وغرست بالحديقة مجموعات من أندر أنواع الأشجار التي استوردها باريل بك من أوربا والهند وأفريقيا والبرازيل,ومن كوبا استوردالنخلة الملكية ومن استراليا الشجرة التي اشتهرت باسمبودرة العفريت وعلي شرف الإمبراطورةأوجين غرست شجرة أطلق عليها اسمأوجينيا وتكريما لاسم جورج واشنطن غرست شجرة شعثاء أطلق عليهاواشنطونيا وبعض هذه الأشجار النادرة الآن موجود بحديقة الأسماك بالزمالك وحديقة الأورمان بالجيزة.
ولم تفتح الحديقة إلا بعد أن ارتفعت أشجارها…وكانت حفلة الافتتاح سنة1872م من أبهي الحفلات التي رأتها مصر,وأحصي أسماعيل أنواع النباتات المزورعة فكانت حوالي 153 نوعا.
كذلك أقيمت بحيرة رائعة وجبلاية صناعية وممرات مظللة وجسور علي بحيرات صغيرة وقنوات وكانت مزودة بحوانيت ومطاعم مثلسانتي وملاه ومقاه أوربية وشرقية ومقصورة صينية ومراكب للنزهة تسير بالبدال وفرقة الموسيقي الخديوية تصدح بمارشات عسكرية وألحان شرقية وأوربية.
وأصبحت الحديقة تخضع لإشراف نظارة الأشغال التي كانت تحدد مواعيد الفتح والإقفال ومقدار الرسوم التي تحصل من مرتاديها وإعطاء التصاريح في حالة إقامة حفل فيها.
كانت الحديقة في أول أمرها متنزها عاما مباحا للناس في الليل فقط,ثم أبيحت لهم فيما بعد في النهار وكان ذلك من الأمور المهمة لدرجة الإعلان عنه في الجريدة الرسمية نصه كالتاليأبيحت للمتنزهين في النهار حديقة الأزبكية البهية التي هي من جملة الإصلاحات التنظيمية البلدية العمومية.
ودخلت حديقة الأزبكية في عصرها الذهبي فأنشئ فيها مسرحان أحدهما للفن العربي والثاني للفن القديم,كما تحولت إلي موقع للاحتفالات الرسمية والشعبية الكبري للأجانب المقيمين في مصر وللمصريين.
وكانت أثناء هذه الاحتفالات تتحول الحديقة إلي قطعة من دول أوربا أهمها يوم 14يوليو من كل عام حيث عيد الجالية الفرنسية وأيضا يوم24يونية عيد ملكة إنجلترا ويوم 28يناير حينما تحتفل الجالية الألمانية بعيد ملكها غليوم, وفي هذه المناسبات الثلاث كانت الحفلة تبدأ بالسلام الوطني للبلد صاحب المناسبة ثم السلام الخديوي ورأي المصريون ذلك التقليد فأقاموا هناك حفلاتهم وكان أبرزها عيد الجلوس السلطاني واحتفالية الجمعية الخيرية الإسلامية…وراحت الألوف تدوس النباتات التي جمع إسماعيل بذورها من جميع أنحاء العالم.
ومن أشهر المطربين الذين اشتهروا في حديقة الأزبكية المطربةساكنة التي كانت تبكي سامعيها بصوتها الحنون,وأيضاعمر أفندي جارية إسماعيل التي اعتقها واحترفت الغناء في الحديقة,وعبده الحامولي وكان يشدو بمقهيعثمان أغا وأبو سنوليالتي تربعت فوق هضية الجبلاية.
واستمر الحال هكذا حتي أربعينيات القرن الماضي وقل عدد الجاليات الأجنبية مع الحرب العالمية الثانية…وصعد نجمأم كلثوم في ذلك الوقت وواظبت علي إحياء حفلاتها علي مسرح الأزبكية في الخميس الأول من كل شهر.
ولم تكن الموسيقي هي النشاط الفني الوحيد الذي احتضنته حديقة الأزبكية فقد شهد عام 1870 بداية الحركة المسرحية الوطنية مع يعقوب صنوع.
ومن أشهر معالم الحديقةكشك الموسيقي ملتقي الأصحاب والأحباب,ففي الصباح يتحول إلي ملتقي للعشاق وفي العصر يزدحم بمحبي الموسيقي,وفي نفس الوقت تسمع الهتاف السياسي الذي غالبا ما ينتهي بقدوم عساكر البوليس بالعصي الغليظة يهوون بها علي أجسام الهاتفين المتظاهرين.أما الفئة الأكثر تأثيرا فهم الطلبة الذين يأتون عقب ظهور نتائج الامتحانات ويكتظ المكان بهم وترتفع أصوات الضحكات والتهريج.
وبعد قيام ثورة يوليو 1952 كان لدي جماعة الضباط الأحرار رؤية مختلفة حول حديقة الأزبكية فتم تحويلها من مكان للمتعة العامة إلي مكان لنشر الوعي الثقافي عن طريق إقامة مسرح 26يوليو المعروف الآن بالمسرح القومي وفي عام1954 افتتح امتداد لشارع 26يوليو ليخترق الحديقة ويقسمها إلي شطرين,ويقتطع جزءا كبيرا من خضرتها وأشجارها وجداولها المائية,وتقلصت مساحتها من20فدانا إلي10أفدنة.
وتقدم زاهر شفيق المشرف حدائق الطيور بالقصور الملكية ورئيس الجمعية المصرية لهواة طيور وأسماك الزينة باقتراح لتحويل جزء من الحديقة لمعرض للطيور والأسماك,ولكن كثرة السرقات أدت إلي إغلاقها. هكذا تقلصت حديقة الأزبكية وتقلصت معها الليالي والمباهج التي شهدتها ربوعها…وأسعدت أجيالا متعاقبة..ولكن الأفراح لم يكن مقدرا لها أن تدوم.