صبيحة الاثنين الماضي, كان بالإمكان رؤية بطاقات نقدية من دولارين ملصقة علي الأبواب الداخلية للمقر الرئيسي لشركة ”بير سترنز” وسط منهاتن. ومن الصعب أن نقرر ما كان الأمر الأكثر غرابة: أن يكون سعر الدولارين هو ثمن السهم الذي قبلت أن تدفعه شركة ”جيه بيه مورجان تشايس” بغية الاستيلاء علي الشركة التي كان التداول بسهمها يتخطي الـ60 دولارا قبل أسبوع, أم أن بطاقات الدولارين بقيت ملصقة لبعض الوقت في مكان يعج بالموظفين الذين ضربهم العوز فجأة؟
مثل سائر الشركات في وول ستريت, تلقت ”بير” نصيبها من المشاكل بسبب أزمة الرهون العقارية العالية المخاطر. لكن خلال الشهر الماضي, خسرت ثقة الأسواق, تماما كما تفقد الثقة في الكثير من الزيجات فتفشل ببطء في البداية ومن ثم دفعة واحدة. وفي يوليو, عندما انهار صندوقان للتحوط كانت تديرهما, كان الرئيس والمدير التنفيذي السبعيني لشركة بير, جيمس كاين, يشارك في مباراة للعبة البريدج بناشفيل. ونهار الأربعاء 12 مارس, أكد آلن شوارتز الذي خلف كاين في يناير أمام مشاهدي محطة ”سي.إن.بي.سي” أن شركة بير سترنز ليست لديها مشاكل وتوقع أن تدر أرباحا في الفصل الأول من السنة المالية. وبعد هذا التصريح بيومين, أخبرت شركة بير المسئولين الحكوميين أنها قد تجبر علي إعلان إفلاسها. وخلال عطلة نهاية الأسبوع التالية, توصل الاحتياطي الفيدرالي إلي صفقة وافقت بموجبها شركة جيه بيه مورجان تشايس علي شراء بير سترنز بسعر اسمي قدره 236 مليون دولار بعد أن كانت تساوي الشركة, في يناير 2007, نحو 20 مليار دولار.
إن انهيار بير سترنز, وهو خامس أكبر بنك استثماري في البلاد, يظهر مدي خطورة وضع الأسواق المالية ومدي الآثار السلبية لانحسار الثقة. إن قلة الثقة كما قلة السيولة أجهزتا علي بير سترنز. لقد فشل بنك الاستثمارات هذا بشكل أساسي لأن فرقاء آخرين ــ من بنوك وصناديق تحوط ومؤسسات مالية ــ لم يشأوا تمديد مهلة تسديد قروضه ولم يعودوا يشعرون بالارتياح في تعاملهم مع الشركة أو في ترك أصولهم بعهدتها.
يكتب ميريديث ويتني وهو محلل في شركة ”أوبنهايمر”, في تقرير صدر أخيرا: ”إن أي شركة مليئة بقدر ما يراها الآخرون ممتلئة”. والأمر يصح بشكل خاص عندما يجري تعويم شركة ما حتي آخر فلس فيها. فقد كانت شركة بير سترنز تدين بـ33 دولارا مقابل كل دولار تملكه علي شكل أصول. فكروا في الأمر بهذه الطريقة: إذا اضطررتم غدا إلي تسديد كل قروضكم الدراسية ورهن منزلكم بالكامل وفاتورة بطاقة الاعتماد والـ180 دولارا التي تدينون بها إلي زميلكم السابق في غرفة الحرم الجامعي, ألن تحتاجوا إلي من ينتشلكم من هذا المأزق؟
فيما يراوح الاقتصاد العام مكانه وربما ينكمش, يبدو أن وول ستريت علي شفير الانهيار لأسباب نفسية بقدر ما هي اقتصادية. وتنحدر كلمة credit (أي قرض) من الأصل اللاتيني credo الذي يعني ”أؤمن” أي أن المال يقرض مع إيمان بأنه سيسدد في وقت لاحق. وخلال ”الفورة” الأخيرة في قطاعي الإسكان والقروض العقارية, اعتقد الناس أن الديون لن تهلك لأنه لم يسبق أن هلكت. لكن عندما تهبط ”الفورة”, يتغير الاتجاه العام بشدة ليتخذ منحي معاكسا. ويقول روجر ألتمان, كبير المديرين التنفيذيين في بنك الاستثمارات ”إفيركور”: ”لقد شهدنا أسواقا تنتقل من فترة انتعاش مدهش في مجال الاستدانة إلي أسوأ أزمة قروض منذ ثلاثينيات القرن الماضي في غضون ثمانية أو تسعة أشهر”. ونظرا للانهيار, من المتوقع أن تكون لدينا ”أسئلة حول سلامة الممارسات والأمن السائدين في أسواق اليوم”.
في تسعينيات القرن الماضي, كان العاملون في الأسواق بشتي أنحاء العالم يتمتعون بثقة لا تتزعزع في قدرة رئيس بنك الاحتياطي الفيدرالي آلن جرينسبان علي معالجة الأزمات. فعندما كانت تبرز مشاكل, كان جرينسبان يلقي الدعم من وزير المالية روبرت روبن ونائبه, لورنس سامرز, إضافة إلي مساندة من فريق متمرس من البيت الأبيض. فكانوا يعرفون بـ”لجنة إنقاذ العالم”. لكن الرئيس الحالي للاحتياطي الفيدرالي بن برنانكي ووزير المالية هنري بولسن لم يثبتا بعد أنهما في مستوي جرينسبان وروبن, إذ إن رد فعل برنانكي لم يواكب جسامة الأزمة. فقد أعلن عن احتواء أزمة القروض العقارية فيما كانت الأزمة تتفشي, ثم قلل من شأن المخاوف حول التضخم فيما كان مؤشر أسعار المستهلكين آخذا في الارتفاع. لكن في الأشهر الأخيرة, استجاب بسرعة وإبداع فقام بتخفيض معدلات الفائدة بشدة ووضع القروض في متناول البنوك ومؤسسات وول ستريت.
أما بولسن, الرئيس والمدير التنفيذي السابق لجولدمان ساتش, فيستمر في الاضطلاع بدوره العام. وحين تحدث عن عملية إنقاذ شركة بير سترنز, بحسب ما يقول ديفيد روتكوف, صاحب كتاب Superclass (الطبقة الخارقة) والنائب السابق لوزير الاقتصاد ”بدا كأيل رصده صيادون. كان يحاول جاهدا القول لدي الكثير من الثقة لكن بدا واضحا أنه لم تكن لديه أي ثقة.
فيما يشيد المحللون برزمة التحفيزات الجريئة التي توصلت إليها إدارة بوش مع الكونجرس, كان رد الفعل الإجمالي أقل من جيد. وقد قال سيناتور نيويورك تشارلز شومر لنيوزويك: ”لقد أصبحت أزمة القروض العقارية العالية المخاطر جلية منذ تسعة أشهر. لكن هذه الإدارة لم تتخذ أي خطوات حسية قبل الشهر الماضي عندما كان الأوان قد فات تقريبا”. وجاء رد الإدارة بالتنديد بعمليات التعويم التي تطال المقترضين العاجزين عن تسديد اعتمادات منازلهم (فيما وافقت علي تعويم شركة بير سترنز) والتشديد علي الحاجة إلي إطالة تخفيضات الضرائب التي اقترحها بوش إلي ما بعد عام .2010 (إن معدلات ضريبة الدخل الهامشية لعام 2011 هي آخر مشكلة يفكر فيها الملايين من ملاك المنازل الغارقين في الديون).
في الكتاب المقدس, يحذر الرسول بولس أهل كورنثوس بقوله: ”إذا أصدر البوق صوتا غير واضح, من ينبغي له أن يتهيأ للمعركة؟” وعندما يتعلق الأمر بالمسائل الاقتصادية, إن نافخ البوق الرئيسي ينشز أيضا بشكل مريع. فهذا الشهر, تفاجأ جورج دبليو بوش عندما عرف أن سعر الوقود يقترب من أربعة دولارات للجالون الواحد. ونهار الجمعة 14 مارس, وفيما كانت شركة بير سترنز تنهار, تحدث بوش أمام نادي نيويورك الاقتصادي في فندق هيلتون علي بعد بضعة مبان منها ومازح الحضور بقوله إنها ”فترة مثيرة للاهتمام” رافعا يديه في الجو خلال كلامه عن أزمة القروض العقارية, مضيفا: ”هكذا تعمل الأسواق. نشهد فيها فترات ازدهار وركود”. قالها وهو يعرب عن تفاؤله الشهير.
بعد عدة سنوات من الخصب والعطاء, قد تكون هذه بداية بضع سنوات عجاف. وقد تحدث أخيرا ديفيد روبنشتاين, رئيس مجموعة ”كارلايل”, شركة الأسهم الخاصة الكبيرة, عن دخول ”عصر التطهير حيث سنكفر عن أخطائنا”. إن أكبر البنوك وأكثرها تقدما ــ ”سيتي جروب”, ”جولدمان ساكس”, ”ميريل لنش” ــ بعدما أساءت تقدير المخاطر علي نطاق كبير قبلت بتخفيضات علي الرهون وعلي قروض أخري بقيمة عشرات المليارات. علي سبيل المثال, في السنة الماضية قامت مجموعة ”كارلايل كابيتال جروب” للاستثمارات التي ترعاها شركة كارلايل ببيع حصص للجمهور ثم استدانت 31 مرة المبلغ الذي جنته لشراء أوراق مالية تدعمها رهون عقارية وأدوات استدانة أخري. وهذه ليست باستراتيجية استثمارية بقدر ما هي مناورة تضليلية. ففيما طالب المقرضون المتوترون تسديد ما دينوه, أجبرت مجموعة كارلايل كابيتال علي الخضوع للتصفية.
واليوم إن شعور المستثمرين الكاسح ــ الذي سمعناه علي شاشة ”سي.إن.بي.سي” والجلي عبر مؤشرات الأسواق وأسعار السندات ــ هو الخوف. فأسعار سندات الخزينة القصيرة الأمد, وهي أضمن الاستثمارات الممكنة, بلغت أعلي مستوياتها منذ 50 عاما. هناك 3.5 تريليون دولار من الأموال في الأسواق النقدية وتقبع الشركات غير المالية علي أكوام من السيولة. لكن لا يملك المستثمرون ما يكفي من الثقة كي يشغلوا كل هذه الأموال.
ما من حلول سريعة. ولو أن الأمور غير مترابطة بعد في الوقت الحاضر, إلا أن ”الجلبة الحاصلة في النظام المالي ستتجلي علي مختلف أصعدة الاقتصاد في الأشهر والفصول المقبلة”, بحسب مارك زاندي, كبير الاقتصاديين في موقع Economy.com التابع لشركة ”مودي”. ويتابع هذا الاقتصادي بالقول: ”أظن أنه يلزم بعض الوقت قبل أن تظهر تداعيات هذه الأزمة”. إن الهروب من المخاطر بدأ يصعب علي الطلاب وكل من يود شراء سيارة أو منزل الحصول علي قرض.
فالثقة لا يمكن استدانتها من الاحتياطي الفيدرالي بل يجب اكتسابها ببطء وعلي مر الزمن وبفضل شفافية أكبر. ويقول دونالد مارون, الرئيس والمدير التنفيذي السابق لـ”باين فيبر” الذي يدير اليوم شركة ”لايتيير كابيتال”: ”يمكن أن تتحمل الأسواق أي شيء تقريبا إذا ما عرفنا ماهيته وما ثمنه ما قيمته. وبغية القيام بذلك, نحتاج إلي مزيد من المعلومات”. لقد كانت هذه الأزمة مثل لعبة القمار مع مشاكل تبرز في أمكنة غير منتظرة مثل صندوق تحوط في لندن أو بنك استثمار في نيويورك. ونتيجة لذلك, لم يفهم المستثمرون والمنظمون بعد حجم المشكلة. كما يجب علي البنوك أن تدعم ميزانياتها حتي لا تكون عرضة لحوادث كتلك التي قضت علي بير سترنز. من جهته, يقول دوجلاس هولتز إيكنن, المدير السابق لدائرة الموازنة في الكونجرس وأحد كبار المستشارين السياسيين في حملة جون ماكين: ”لو ضخختم مزيدا من رءوس الأموال في هذه البنوك والمؤسسات المالية, لصرنا في وضع أفضل”. لكن يجب عليهم بصورة أساسية التوقف عن خسارة كل هذه الأموال الطائلة. فالفشل يولد التشكيك والكفاءة تولد الثقة.
إذا كان هناك من أمر تتمتع به وول ستريت فهو القدرة علي تخطي الفشل بسرعة. فالاثنين الماضي, بدأ المديرون التنفيذيون في جيه بيه مورجان تشايس بشغل مكاتب بير سترنز. ونهار الأربعاء, كان انهيار بير من الأخبار القديمة. ونهار الثلاثاء, ارتفع مؤشر داو جونز الصناعي 420 نقطة لكنه ما لبث أن هبط 293 نقطة نهار الأربعاء وعاد فاكتسب من جديد 252 نقطة نهار الخميس. ويشبه الرسم البياني لمؤشر داو جونز علي المدي القريب سلسلة من الجبال الشاهقة والوديان السحيقة. نهار الخميس, ووسط ارتفاع مؤشر داو جونز, كان لا يزال هناك خاسر: مجموعة ”سي.أي.تي”, وهي شركة تساوي 83 مليار دولار وتعد من كبار المقرضين للشركات. لكن أفادت ”سي.أي.تي” بأنها عاجزة عن تأمين مواردها المعتادة من القروض واضطرت إلي تحصيل 7.3 مليار دولار كانت أقرضتها إلي عدة بنوك. لكن سهمها شهد هبوطا حادا. وبالنسبة إلي الكثير من العاملين في وسط الاستثمارات, يعتبر فيلم Wall Street رمزا خالدا. لكن نظرا إلي الطريقة التي تعيث بها أزمة الثقة الخراب, لعله يجدر بهم مشاهدة فيلم Groundhog Day بدلا منه.
بمشاركة أشلي هاريس وباريت شريدان في نيويورك ودانييل ستون في واشنطن
نيوزويك