محاولاتهم لشق قناة السويس.. انتهت باستيلاء دليسبس علي المشروع
في أبريل عام 1833 نزل من علي ظهر الباخرة التجارية ولي العهد إلي أرض الإسكندرية, أربعة أشخاص يرتدون زيا مضحكا وغريبا, كانوا ملتحين يرتدون قبعات بيريه حمراء ويطوون شعرهم الطويل داخلها, وسترة سوداء ضيقة عند الخصر وصديريا في لون القرمز وبنطلونات حمراء فاقعة شبه ملتصقة بأجسادهم وإيشاربا أبيض يرفرف في الهواء.. وبدا زيهم الموحد وسيلة تعكس مظاهر فلسفتهم الاجتماعية وهي حرصهم علي الألوان المثلثة التي ترمز إلي الثورة الفرنسية وهي الأبيض والأحمر والأزرق.. قدموا أنفسهم بأنهم سان سيمونيون أي أتباع المفكر الفرنسي كلود هنري دي سان سيمون وطلبوا مقابلة محمد علي, وفي قصر التين قالوا لهم إن الباشا ينام القيلولة.. وفي اليوم التالي اكتفوا برؤيته أثناء ركوبه حصانه, وقاموا بتحيته فأجابهم بلطف ثم سار في طريقه, من هؤلاء وماذا أرادوا؟
في 27 أكتوبر عام 1760 رزق الكونت بالتازار هنري دي سان سيمون طفلا أسماه كلود, وكان الصغير يحمل الدم الأزرق النبيل في عروقه.. وهو دم أجداده من النبلاء الذين يقال إنهم من سلالة شارلمان الذي يعتبره الفرنسيون الجد الأكبر للنبلاء الفرنسيين الأصليين. لم يتذوق كلود أياما سعيدة في طفولته, فقد كان عنيدا ميالا للتحرر من قيود الدين والانطلاق من سلطة الأسرة, مما دفع والده – إزاء عصيانه المستمر – إلي إيداعه في دير سان لازار بباريس كوسيلة لتأديبه.
ثم بدأت صفحة جديدة في حياة سان سيمون عندما التحق بالجندية, ففي فرقته العسكرية بدأ أول اتصال فكري له مع المفكر والمبير الذي كان لأفكاره تأثير عميق في تفكير سان سيمون. وفي عام 1779 انضم إلي صفوف المتطوعين من الأشراف والنبلاء الفرنسيين للمساهمة في حرب التحرير الأمريكية.. وغرست فيه الحرب كراهية للاستعمار.. ورسخ إيمانه بأن السلام أمر سهل المنال إذا اتصلت الثقافات وتقاربت الميول وتناسقت الاتجاهات علي أساس علمي سليم خاصة عن طريق شق القنوات التي تربط القارات والمحيطات بعضها بالبعض الآخر. الكونت سان سيمون الذي توفي عام 1825 لم يسعفه الوقت لتطبيق أفكاره الاشتراكية.. وخلفه في هذه المهمة تلميذه اتفانتان.
لم يكن تعلق اتفانتان بالشرق وغموضه وبمصر وسحرها مسايرة منه للاتجاه الذي ساد في عصره, وإنما كان الشرق بالنسبة له المكان الملائم لتطبيق فلسفته الاجتماعية وعلي الأخص فكرة الإنسانية العالمية واستغلال هذه الطبيعة الخيرة وربطها بالغرب وقيام اتحاد عالمي.. وفي هذا كتب اتفانتان إلي أحد تلاميذه قائلا: إن دورنا هو أن نقيم بين مصر العتيقة والضفة الغربية بفلسطين أحد الطريقين الجديدين اللذين يربطان أوربا بالهند والصين, وفيما بعد سنشق الطريق الآخر إلي بنما.. هكذا سوق تمتد يدنا اليمني إلي مكة, وتغطي ذراعنا اليسري روما وتستند علي باريس. إن السويس هي مركز حياتنا العلمية, سنقوم هناك بإنجاز العمل الذي ينتظره العالم ليعترف بأننا رجال.
لم يكن رحيلهم إلي الشرق سهلا إنما تعرضوا للإيذاء والاضطهاد.. بالرغم من ذلك رحل إلي مصر خمسة وخمسون عضوا من الأتباع يمثلون كافة الحرف والمهن والفنون والصناعات.. لهذا يري السان سيمونيون أنهم الحملة الفرنسية الثقافية الثانية بعد حملة بونابرت.
وبعد مضي وقت قليل ذهب انفانتان إلي برزخ السويس لاستكشاف الموقع.. وعاد مقتنعا أكثر من أي وقت بإمكانية ربط البحر الأحمر بالبحر المتوسط. لكن محمد علي لم يكن يريد سماع الحديث عن ممر دولي يعبر بلاده وقد يهدد استقلالها.. وهو يرغب في المقابل بناء سدود علي النيل, وخضع المهندسون السان سيمونيون للأمر عوضا عن ربط البحرين, وقاموا بالمشاركة في بناء السدود تحت إشراف الفرنسي لينان دي بيلفون. وأصيب تلاميذ السان سيمونيين بالإحباط حين اكتشفوا الطريقة اللاإنسانية التي يعامل بها الفلاحون البؤساء, مما كان يدفعهم إلي أن يقطعوا أصابعهم أو يفقأوا أعينهم للتخلص من التجنيد أو من تعبئتهم في أعمال السخرة بلا أجر. واقترح اتفانتان تكوين جيش صناعي يضم فرقا وسرايا وكتائب ويكون للعمال زي موحد وراتب مثل جنود الجيش ولا يشترك في هذا الجيش إلا البالغون أكثر من 10 سنين معيار إنساني وفي المقابل لن يضموا سوي المشوهين عن عمد حتي لا يكون تشويه الجسم ضمانا ضد التجنيد.. ونجح السان سيمونيون أيضا في الحصول علي الموافقة لإنشاء مدرسة للهندسة المدنية بجوار ساحة العمل الواقعة عند رأس الدلتا, وأقنعوا محمد علي بإنشاء مجلس أعلي للتعليم العام, وإنشاء لجنة استشارية للعلوم والفنون.
حاول أتباع سان سيمون أن يدخلوا فكرة الموسيقي في العمل التعاوني فتولي روجيه إعداد مقطوعات موسيقية تنزع إلي إثارة الهمم والحماس ومن أهم هذه الأناشيد لاكارامانيول, كما نجحوا في إنشاء مدرسة للطب ومدرسة للفرسان ومدرسة للمهندسين, كما نجح الفنانون من أتباع سان سيمون في إنشاء مدرسة للرسم بالجيزة تقوم علي مبدأ الحرية الفنية وأشاعوا شعورا عاما بأهمية الفن والألوان كوسيلة من وسائل التثقيف الفكري والاجتماعي.
وتوقفت الأعمال التمهيدية لبناء القناطر عام 1835 بسبب وباء الطاعون الرهيب الذي ذهب ضحيته 35 ألف نسمة في القاهرة, بينما وضع الأطباء السان سيمونيون أنفسهم لخدمة المرضي بشجاعة.. وكان يصر الأطباء السان سيمونيون علي أن الطاعون ليس معديا, ودفع العديد منهم حياتهم ثمنا لهذا.. وفي العام التالي بعد أن فقدوا حماسهم سافر الأب أنفانتان بصحبة بعض تلاميذه إلي فرنسا, ولكن بقي بعض السيمونيين مثل شارل لامبير الذي حصل علي رتبة البكوية ثم الباشوية ونحن مدينون له بإنشاء مدرسة بوليتكنيك عام 1838 الأولي من نوعها في الإمبراطورية وأصبحت فيما بعد الجزء المحوري للبنية التعليمية في البلاد.. كما أسس لامبير مرصد القاهرة. ولا ننسي روجيه الذي أنشأ النواة الأولي لموسيقي المدفعية بمدرسة المدفعية.
وأنشأ أنفانتان في باريس جمعية دراسات لقناة السويس بالتعاون مع مهندسين مشهورين, كما جرت دراسات جديدة في الموقع بعد الحصول علي تصريح من محمد علي الذي بدأ يستشف فائدة مثل هذا المشروع, لكنه احتفظ بحقه في السيطرة عليه, ولكن لعدة أسباب بقي الموضوع في زوايا النسيان إلي أن ظهر فرديناند ديليسبس علي المسرح واستولي علي كافة المعلومات والمستندات المتعلقة بالمشروع من أرليه وأنفانتان عام 1845 ثم تنكر للمدرسة السان سيمونية, وبدأ المشروع يأخذ صورة سياسية استعمارية, لكن هذا لا يحرم أتباع السيمونيين تفكيرهم الإنساني الذي يبدو واضحا من تصرف اتفانتان بعد أن تحقق مشروع قناة السويس فأعلن علي الملأ لقد كنت عجوزا مخرفا عندما انتابني الحزن.. إنه ديليسبس الذي زوج البحر الأحمر بالبحر المتوسط.. ومن غير المهم كذلك أن يصادف العجوز بروسبير انفانتان خيبة أمل ولكن المهم هو أن تشق القناة وسوف تشق ولهذا السبب فإنني أقدم الشكر إلي ديليسبس وأباركه.
من المهم أن ندرك أنه إذا كان تطبيق المذهب الاجتماعي للمدرسة السان سيمونية قد تغير لظروف سياسية واجتماعية خارجية فإن هذا لا يقلل من أهمية هذه المحاولة التي تعتبر الأولي من نوعها في تاريخ الفلسفة الحديثة.