رحل الأستاذ أنطون سيدهم وملفاته عن الوطن والأقباط لم تغلق. ومن ثم فإن القراءة فى كتاباته بمثابة جرس انذار مازال يدق من أجل علاج شاف لكل مشكلات مصر، وهو ما يجعل لمسيرة “وطنى” هدفا نسعى لادراكه، ورغم هذا لم يتحمس أنطون سيدهم فى حياته لفكرة تجميع مقالاته فى كتاب، كما عبر عن ذلك رئيس تحرير وطنى المهندس يوسف سيدهم .. معتبرا اياها لا تعدو كونها صوت ضميره الوطنى الأمر الذى لا تتوجب الاشادة به أو جمعه بين ثنايا كتاب، لكن بعد رحيله تكاثر من رأوا أن إعداد كتاب أصبح ضرورة ملحة لتوثيق هذه الحصيلة من الكتابات وتقديمها للأجيال باعتباره جزءا من ذاكرة الوطن .
فتم إصدار كتاب” أنطون سيدهم الوطن والأقباط ملفات لم تغلق” إعداد نبيل عدلي، وتقديم يوسف سيدهم، وهو الصادر عن سلسلة كتاب وطنى ليكون علامة مضيئة للشباب يلتمسون من خلاله طريقهم صوب النجاح سواء على المستوى الشخصى أو الوطنى، ففى اقتفاء مسيرة الرجل العديد من المحطات أجملها النجاح وأروعها القدرة على تخطى المحن والصعاب وأبدعها صدق الوطنية والانتماء.
الكتاب يركز على الملامح الرئيسية فى مسيرة رائد “وطنى”، ونعرض فيه لعدد من المحطات مقرونة بمقالات منتخبة وموجزة من كم زاخر من المقالات بلغت 288 مقالا سطرها قلمه الذهبى .
ويشير الكتاب إلى أنه فى سنة اليوبيل الذهبى لجريدة وطنى أجرت الصحفية نادية برسوم، والحفيدة دينا سيدهم حوارا شيقا مع السيدة سميرة سيدهم شريكة مشوار حياة الراحل انطون سيدهم حيث غلف هذا الحوار الكثير من الشجن والحنين من استدعاء الذكريات فنراها تقول كما جاء بالنص:” كل شئ فى حياة انطون كان منظما والادوار الاسرية محددة ومعروفة، فكان يوم الاحد له طابع خاص؛ لأن أنطون كان مرتبطا جدا بالكنيسة ومحبا جدا لطقوسها وملتزما بأصوامها مهما كانت حالته الصحية. أما فيما يخص معاملة الابناء فكان مشجعا لهم على القراءة، وكان يناقش معهم ميزانية شراء أى مستلزمات أما المتعلقة بالكتب فكان لها الاولوية .. وكان حنونا جدا معهم رغم شخصيته المهيبة والحازمة . كما أنى اتذكر أنه كان يتمنى أن يدخل يوسف كلية التجارة ليستمر فى مباشرة مكتب المحاسبة إلا أن يوسف فضل دراسة الهندسة، ومع ذلك لم يرغم انطون ابنه على التجارة وترك له حرية الاختيار .. ولكن رغم أن العمل المحاسبى لم يجتذب اهتمام يوسف إلا أن الحقل الصحفى استهواه واجتذبه بشدة بارادته الحرة دون ضغط من والده حتى انخرط فيه وانغمس فى مطبخه الصحفى واصبح خير خلف لخير سلف ” .
قصة التحول إلى عالم الصحافة
ويذكر الكتاب الحوار الذى اقامته دكتورة ليلى شفيق مع يوسف سيدهم رئيس تحرير جريدة وطنى والذى يتحدث فيه عن قصة تحوله إلى عالم الصحافة فنراه يقول:” ترجع قصة تحولى إلى عالم الصحافة إلى عام 1986 أي بعد خمسة عشر عاما من تخرجى وانغماسى فى ممارسة مهنة العمارة، ففى صيف ذلك العام ودون سبب محدد وجدت رغبة آخذة فى النمو داخلى نحو تطوير علاقتى بجريدة وطنى إلى أكثر من مجرد قارئ . ولست أدرى على وجه الدقة باعثا محددا لذلك. ولكنه قد يكون المناخ الاجتماعى والسياسى السائد وقتها من تدهور معايير المواطنة بين المصريين واستفحال متاعب الاقباط على يد التطرف الإسلامى، وتقاعس الدولة عن حماية الأقباط بل على العكس تركها الزمام يفلت أمنيا وتعليميا وإعلاميا، الأمر الذى انعكس وقتها على المواقف التى تبنتها وطنى وسياستها فى التصدى لذلك التدهور .
موقفان يحملان فكره
ويكشف الكتاب عن ما قالته سامية سيدهم ضمن مذكراتها عن أنطون سيدهم الأب والمواطن المحب لوطنه فنراها تقول: ” للأب الذى عرفته موقفان عايشتهما وشاهدتهما وهما يحملان فكر وموقف الأب المهاب، والمواطن المصرى الصميم. الموقف الأول كان فى الأيام الأخيرة من حياته حيث كان مريضا، وسافر إلى الخارج لاجراء عملية جراحية، وفيما كان أحد الرهبان يحدثه عن الإيمان وقوة الشفاعة و الكنيسة، نهض أبى من رقدته وصمته وتملكه حماس غريب وهو يقول” أنا اسمى انطون على اسم الانبا انطونيوس مؤسس الرهبنة فى مصر والعالم كله .. أنا من مصر وكنيستى هى الكنيسة القبطية التى أسسها مارمرقس الرسول، وكنيستنا هى أعرق كنيسة فى العالم، هكذا كان اعتزاز أبى بمصريته وكنيسته حتى فى أشد لحظات مرضه “.
أما الموقف الثانى فيكشف فى دقة عن فكر أنطون سيدهم لرسالة وطنى فنراه تقول:” كنت مع أبى فى المكتب ورن جرس التليفون وقال المتحدث لأبى أن إحدى الجرائد تهاجم المسيحية، وتتعرض لمعتقداتنا، ويجب أن تكتب ردا على هذا، فرد أبى على الفورقائلاً:”عاوزنى أدافع عن المسيح، هذا ليس دورى .. أنا ممكن أدافع عن المسيحيين وأوصل صوتهم إلى المسئولين، ولكنى لا أدافع عن المسيح، المسيح هو الذى يدافع عنى وعنك”. ومن هنا يتضح أن عدم الخلط كان واضحا تماما فى فكر انطون سيدهم وأن رسالته هى رفع صوت الأقباط والمصريين عامة والدفاع عن قضاياهم .. أما المسيحية فلها من يدافع عنها .
معاناة شعب .. ورثاء فرج فوده
يوضح الكتاب أن لأنطون سيدهم الكثير من الآراء الصائبة من أجل بناء مواطن يحصل على ما له من حقوق ويؤدى ما عليه من واجبات، ولا عجب فقد انتخب عضوا بمجلس الشعب نائبا عن مواطنى شبرا مصر بالحزب الوطنى الديموقراطى فى عام 1984، فنراه يقول فى مقطع من إحدى مقالاته بعنوان معاناة شعب:” نعم أن الطبقات المطحونة هى 95 % من الشعب المصرى تعانى معاناة شديدة من الحصول على الطعام الضرورى، وإشباع جوعهم، وأن عائلات كثيرة تنام على الطوى لعدم وجود عشاء فى بيوتهم، لقد ارتفعت أسعار المواد الغذائية الضرورية جدا، حيث أصبح لا يقدر على شرائها أغلبية الشعب المصرى”.
بينما فى مقاله دكتور فرج فودة فى ذمة الله نراه يرثيه قائلاً:” يشق على أن أنعى إلى الشعب المصرى العريق المرحوم الدكتور فرج فوده الوطنى الحق، الذى كان دائما ما يحارب بقلمه فى سبيل الدفاع عن وحدة الشعب، والعمل بكل جهد على تقوية هذه الوحدة وإزالة كل ما يعلق بها من شوائب وأفكار خاطئة تعمل على تفتيتها أو المساس بها حقا لقد كان رحمه الله رجلا جريئا يدافع عن رأيه بكل قوة ويناضل فى إعلاء ما يعتقد بأنه حق وصواب”.
سوء معاملة الأقباط
يستعرض الكتاب العديد من المقالات التى سطرها الراحل أنطون سيدهم بقلمه الذهبى ففى مقاله سوء معاملة الأقباط، يقول فيها:” كتبت قبل سفرى للخارج عن الخط الهمايونى، وأثاره السيئة على الأقباط فكم يتحملون من مشاق للحصول على قرار جمهورى ببناء كنيسة لهم. أما عن الاعتداءات المستمرة من الجماعات فقد أصبحت سمة هذه الأيام، ولسنا فى حاجة إلى نشر تفاصيلها إذ أن جرائد المعارضة تنشر تفاصيل الأحداث المؤلمة من تهديد للأقباط والاعتداء عليهم بالضرب والقتل .. ثم نهب متاجرهم وحرقها وتخريب مساكنهم، والاعتداء على النساء والاطفال. لقد أصبحت هذه المآسى أشواكا مؤلمة فى حياة أقباط مصر، وبالرغم من الكتابة فى هذا الموضوع مرات كثيرة فإن الحكومة لم تحرك ساكنا، ولم تتخذ أى إجراء سواء بخصوص ما يعانيه الأقباط فى إنشاء وترميم كنائسهم أو بالقيام بتخطيط فعال لانهاء الاعتداءات على هؤلاء الأقباط المسالمين”.
اليوبيل الماسى .. وأحلام تحققت
ويفصح الكتاب عن أروع ما سطر بصفحات ” وطنى” فى عام 2008 احتفالا بسنة اليوبيل الذهبى للجريدة تلك الرسالة التى خطت سطورها “تارى” حفيدة يوسف سيدهم، والرسالة تحفة أدبية فكرية استقرأها للمستقبل” أشرف رمسيس” قارئ وطنى بأسيوط ونسبت للطفلة من افتراض الكاتب .. فماذا قالت ” تارى”، وهى افتراضيا بلغت من العمر خمسة وعشرين عاما، ومن ثم تحتفل باليوبيل الماسى لتأسيس وطنى:” فى بداية مقالى اليوم أتوجه بالعرفان وجزيل الشكر للراحل العظيم أنطون سيدهم جد أمى على مجهوداته العظيمة فى تأسيس جريدة وطنى منذ 75 عاما. كما أتوجه إلى المهندس يوسف سيدهم جدى أطال الله عمره على مواصلته لرسالة وطنى. وجاء الدور عليّ مواصلة الرسالة فأنا شابة اعشق الصحافة والكتابة. ومن خلال متابعتى للأعداد القديمة من جريدة وطنى وجدت سلسلة مقالات بعنوان ” قراءة فى ملف الأمور المسكوت عنها “، ووجدت أن كل ما كتب منذ نحو ربع قرن تحقق بالفعل اليوم على أرض الواقع فعلى سبي المثال لا الحصر جاءت حركة تعيينات المحافظين بوجود 8 محافظين أقباط . تم الغاء خانة الدين من الأوراق الرسمية. إجراءات ترميم وبناء الكنائس باتت سهلة للغاية. تم تدريس الحقبة القبطية فى مادة التاريخ. أما أسعد خبر سمعته هذا العام هو اطلاق اسم الراحل أنطون سيدهم على أحد شوارع القاهرة”.
==
س.س