هرعت وأبنائي لوراق الحضر ثاني يوم الظهورات يحدونا الأمل برؤية طيف العذراء مريم والحمام فالظهورات النورانية تمدنا برسائل صامتة من السماء وتبعث فينا الأمل والرجاء… وفي الطريق تباينت الانفعالات, فالأولاد في غاية الشوق لرؤية الظهورات التي يقرأون عنها, وها هي الفرصة تسنح لكي يروا بعيونهم… فيارب نشوف العدرا والحمام النوراني هذا كان لسان حالهم… واشتركت في الانفعالات لكني أوفر حظا فقد شاهدت من قبل ظهورات العذراء والتجلي والحمام بكنيسة الزيتون في أبريل 1968 ومن بعدها الأنوار الخاطفة التي كانت تنبلج فتحيط بمنارتي كنيسة الشهيدة دميانة بأرض بابا دوبلو بشبرا مصر في مارس .1986
في المشهد مقابل الكنيسة بامتداد طريق الكورنيش, والجو بارد كيهكي, إضافة للبرودة القادمة من مجري النيل الذي تطل عليه كنيسة العذراء ورئيس الملائكة ميخائيل (موقع الظهور) شاهدنا خليطا من الناس: الكبير والصغير… الأم والأطفال… المسيحي والمسلم, وإن كانت فئة الشباب هي الغالبة.
لبعض الوقت تركت الأبناء في موقع آمن لكي أستطلع الأجواء بجولة فلا ينبغي أن تفوتني مناسبة كهذه أشبه بأعياد القديسين (الموالد سابقا) وكنت أرتادها منذ حداثتي.
صحيح لم يكن للعذراء أو حتي الحمام النوراني أي ظهور أثناء بداية التجوال بين حشود الناس المتراصة في كل شبر أرض علي جانبي طريق كورنيش النيل الغربي لكن الحناجر كانت تصدح بمدائح وتماجيد لأم النور تماما مثل سهرات الكنائس بليالي كيهك والمعروفة بسبعة وأربعة نسبة إلي السبع ثيئوطوكيات أي التماجيد والأربعة هوسات وهي التسابيح, وكلها لوالدة الإله القديسة العذراء مريم ولابنها المولود في بيت لحم وهي التي قالت تعظم نفسي الرب وتبتهج روحي بالله مخلصي لأنه نظر إلي اتضاع أمته فهوذا منذ الآن جميع الأجيال تطوبني (لوقا1:46-48).
المشهد مفرح فالبعض ينشدون التراتيل المحفوظة عن ظهر قلب والبعض الآخر يرتلون بكتب التماجيد… حتي الدف والناقوس كانا حاضرين بالمشهد لضبط إيقاع الترنيم وكأننا داخل كنيسة نسبح صلوات سبعة وأربعة… وفجأة انقلب المشهد أو أقل انفلت عندما لاحت في السماء حمامة نورانية ثم سرب حمام شق سواد الليل وسط القباب واختفي ربما في لحظات… وكم كانت تلك اللحظات خارج الزمن فلا أحد شعر بالدقائق التي استمرت فيها الظهورات فالأقدام كانت ترتفع عن الأرض في تعلق عجيب بالسماء حتي تحولت الساحة الشاسعة وقت الظهور إلي سماء علي الأرض.
في تلك الأثناء -أقصد لحظات الظهور النوراني- لك أن تشفق علي رجال الأمن بمختلف الرتب من صف الجنود حتي اللواءات فالكل يتعاملون بمنتهي الرقة ويتحملون الكثير… وشهد شاهد من أهلها.
لايستمر انفلات المشهد كثيرا فالحمام يمرق سابحا في الجو المحيط بالقباب ثم ينطلق مختفيا في الفضاء المجهول وبعدها يهدأ المشهد كثيرا لتبدأ من جديد الترانيم وتماجيد العذراء طمعا في مزيد من البركة… إنها البساطة والجلد والإيمان التي جبل عليها المصري العتيد عبر التاريخ.
لم تنته الجولة لكني أحتل الآن موقعا ممتازا أمام المنارتين فقررت البقاء في مكاني مدة أطول وبالموبايل كنت أطمئن علي الأبناء… وسرحت فإذا بالتساؤل المشكك يقفز إلي ذهني: لماذا العذراء في الوراق… وكيف؟… وفي لحظات وجدتني أجيب: نعم الوراق لا تقع علي مسار العائلة المقدسة التي زارت بلادنا منذ ألفي سنة إلا أن العائلة المؤلفة من العذراء مريم وطفلها علي دابة يقودها رجل كهل عليه سمات السلام والوداعة وسيدة تدعي سالومي تتبعهما لابد وشربت من النيل الذي تجري مياهه أمام الكنيسة ومن ثم حلت البركة في الوراق وبكل ربوع بلادنا… فلا مجال إذن لتساؤل أو حيرة ولا ينبغي أن ننشغل بأمور تلهينا عن بركة ظهور العذراء.
طاف بذهني هاجس: فبعض هتافات 2009 بالوراق اختلفت عن هتافات 1968 بالزيتون… ففي الزيتون كان الناس يهتفون رشوا الورد يا صبايا… العدرا زمانها جاية… وفي الوراق هتفوا بص شوف العدرا بتعمل إيه وهذا الهتاف خصيصا أثار حفيظة البعض وكان محل انتقاد البعض الآخر, فشتان بين هتاف وهتاف!!.
من جانبي رفضت الهاجس بسرعة فالفارق الزمني 41سنة والاختلاف ثقافي بحت.. ففي عام 68 كانت الطبقة الوسطي المثقفة وحاملة التقاليد علي أشدها وتمثل قوة ضاربة في المجتمع المصري, أما الآن فهذه الطبقة أصابها التآكل وضربها الوهن ومن لا يزال ينتمي لها يكابد كثيرا… ومن ثم زادت شريحة الطبقة الدنيا بخصائصها من شدة فقر وقلة ثقافة ورداءة تعليم, والوراق وإمبابة المجاورة واحدة من المناطق الفقيرة بمحافظة الجيزة.
وأسوق مشهدا راق لي كثيرا ويجيب علي الذين سخروا من الهتاف إياه… فقد شاهدت أسرة محمولة علي سيارة نصف نقل جاءت لتفوز برؤية العذراء وأطياف الحمام… يعني عائل الأسرة لكي يزور العذراء ملأ السيارة بالأولاد والزوجة وربما إخوته وهذا المشهد من السيارات النقل المشحونة بالعائلات شاهدته بأماكن عديدة كلما تحركت وسط الناس… ومن أفواه الأطفال بسيارات النقل هذه خرجت أجمل أناشيد الاحتفاء بأم النور علي بساطتها… ومن يدري فربما العذراء تظهر لأجل هؤلاء الأصاغر فالإيمان بساطة!!.