شاركت مؤخرا في أعمال منتدي الإعلام العربي 2010 الذي انعقد في دبي تحت الرعاية الكريمة للشيخ محمد بن راشد آل مكتوم, وتحدثت في الجلسة الختامية التي خصصت لبيان أسباب صعود آسيا إعلاميا وتفسير نمو معدلات الطلب علي الناتج الإعلامي فيها, وماهية فرص استفادة المنطقة العربية من التجربة الآسيوية.
لا شك أن آسيا في صعودها المذهل, وتبوئها للمركز الأول في تكنولوجيا المعلومات وصناعة وسائط الاتصال الجماهيرية, استطاعت أن تبز الآخرين. وهي اعتمدت في تفوقها في مجال الميديا علي ميزات خاصة تتمتع بها مثل:
العدد الهائل من السكان, وتحسن مستويات معيشة عشرات الملايين من مواطنيها وبالتالي اتساع شريحة طبقتها الوسطي, والنجاح في محو أمية نسبة معتبرة من سكانها, وبالتالي تشوقها لاستخدام وسائط المعرفة, والسياسات الاقتصادية القائمة علي المنافسة عالميا في مجال الإنتاج والتصنيع لأغراض التصدير إلي الخارج أو التسويق في الداخل, والتي بدورها تؤسس لسوق إعلانية ضخمة تستفيد منها وسائل الإعلام, وسياسات الحوافز لجذب الاستثمارات الأجنبية في قطاع الإعلام كما حدث في الهند, وتوفر الأيدي العاملة الرخيصة في مجال النشر والتوزيع والتصوير والتصميم والإخراج وغيره.
ولا جدال في أن عامل ##تحسن الدخل والمستويات المعيشية والتعليمية## خلق إقبالا كبيرا علي المنتج الإعلامي, بمعني أنه تسبب في زيادة أعداد مشاهدي التلفاز ومشتري الصحف والمجلات ومتصفحي المواقع الإلكترونية, وهذا بدوره ساهم في صمود كل هذه الوسائل الإعلامية, التي تعتمد في ديمومتها علي الإعلان التجاري بصفة رئيسية. فمع تزايد المصنعين في الصين من جهة, وإقبال الصينيين علي الاستهلاك من جهة أخري بفضل تحسن مداخيلهم منذ الإصلاحات الاقتصادية في السبعينيات, ومع حدوث الشيء ذاته في الهند ابتداء من التسعينيات التي شهدت تخلي البلاد عن نهجها الاشتراكي وتبنيها اقتصاد السوق الجاذب للاستثمارات الأجنبية, زاد عدد المعلنين, وزادت الأموال المنفقة علي أوجه الإعلان, فزاد بالتالي نصيب وسائل الإعلام المختلفة من هذه الإعلانات, مما مكنها من الصمود والمنافسة, فيما كانت مثيلاتها في دول الغرب تترنح وتواجه مشكلات ضعف القوة الشرائية للجماهير بسبب الكساد الاقتصادي.
وبطبيعة الحال لا يمكن أن ينطبق ما قلناه علي كل آسيا, لأن الأخيرة قارة تحتضن أمما وشعوبا كثيرة متباينة في أنظمتها وأهدافها ومعدلات نموها ومستويات شعوبها المعيشية والتعليمية. لذا فإن حديثنا سيتواصل بالتركيز علي القطبين الآسيويين الكبيرين الصيني والهندي, إضافة إلي إندونيسيا باعتبارها رابع أكبر دول العالم سكانا, ناهيك عن أنها تشكل مثالا حيا علي مدي تأثر الحراك الإعلامي بتغير الأنظمة السياسية. فثورة شعبها ضد الديكتاتورية في 1998 فتحت الآفاق أمام ظهور إعلام حر, فتوالدت الصحف والمجلات والدوريات (ألف صحيفة ومجلة في بداية الألفية الثالثة, مع بث بعضها علي مواقع الإنترنت كوسيلة لإيصالها إلي القارئ في المناطق النائية), وانتشرت المحطات الفضائية والإذاعات الخاصة (10 شبكات تلفزيونية تجارية مرخصة, و 2000 محطة إذاعية وتلفزيونية غير مرخصة), وصار الكل يتنافس بهدف استقطاب أكبر شريحة من المعلنين, وأوسع شريحة من القراء والمشاهدين الذين صار لديهم لأول مرة خلال ثلاثة عقود مجال واسع للاختيار, خصوصا في ظل حقائق مثل: ارتفاع نسبة المتعلمين إلي 85 في المئة من السكان في أوائل 2000 , ووجود 65 في المئة من السكان تحت سن 34, وتحسن الدخول الفردية نسبيا. هذه الحقائق تضافرت معا, فأدت إلي إدراك الجمهور لأهمية المطبوعة في الحياة اليومية, وبالتالي ارتفعت وتيرة الطلب علي المطبوعات وغيرها من وسائط الإعلام.
ورغم أن ما حدث في إندونيسيا لا يقارن بما حدث في الهند والصين, فإنه لا يمكن التقليل من شأنه, فوسائل الإعلام الإندونيسية التي كانت قد فقدت مصداقيتها بسبب عدم إجادتها سوي التطبيل للسلطة والإعلان عن منتجات شركات يملكها المحسوبون علي النظام, راحت في حقبة الديموقراطية تنشر وتذيع وتسوق كل شيء, فصارت وسيلة للنقد والإصلاح والتحذير من الخطأ والفساد, الأمر الذي جعلها صوتا لآخر فرد في أبعد جزيرة إندونيسية. أما الصحف والمجلات المحلية فقد تحررت من مضايقات رموز النظام, والتي كانت تأخذ شكل معاقبتها بحجب حصتها من الورق المصنع محليا, أو فرض إتاوات لتسريب بعض كميات الورق إليها.
ومن المفيد في سياق حديثنا عن تأثر الحراك الإعلامي في أي بلد بشكل نظامه السياسي, أن نشير إلي تميز الهند عن الصين. فبالرغم من أن الدستور الصيني ينص علي حرية الإعلام منذ الثمانينيات, وبالرغم من التطورات المذهلة التي حدثت لجهة أعداد الصحف, ومحطات الإذاعة والتلفزة, والمواقع الإلكترونية, والمشتركين في قنوات الكابل التلفزيونية, (أفادت إحصائيات 2003 بوجود نحو 2000 صحيفة, و 8000 مجلة, و 3000 محطة تلفزيون في مختلف المقاطعات, واحتلال البلاد للموقع الثاني في العالم بعد الولايات المتحدة لجهة وجود مواقع صينية علي الشبكة العنكبوتية برقم تجاوز 110 ملايين موقع), فإن وسائل الإعلام هذه تخضع للرقابة, ولا تتمتع بالحرية التي تتمتع بها نظيراتها الهنديات, بسبب الطبيعة الشمولية للنظام الصيني.
في الهند قدرت قيمة قطاع الإعلام في 2006 بحوالي 8.9 مليار دولار (حجم قطاع الإعلام المكتوب وحده وصل إلي 2.3 مليار دولار, مع توقع ارتفاعه إلي 5.8 مليار دولار بنهاية 2010). وسبب هذه الطفرة هو عوامل ثقافية واقتصادية ذكرناها آنفا, ثم عوامل ديموغرافية كوجود 700 مليون هندي تحت سن 30, ووصول الطبقة الوسطي إلي 300 مليون نسمة. وبسبب هذه المعطيات, معطوفا عليها التزام الهند بحرية التعبير والنشر, وثقلها السكاني, ورخص أيديها العاملة, وسياستها المحفزة للمستثمرين الأجانب, أصبحت البلاد جاذبة للمستثمر الأجنبي في مختلف المجالات بما فيها المجال الإعلامي.
وهكذا فتح أصحاب كبريات شركات الميديا العالمية وكبار ناشري الصحف العالمية المعروفة فروعا لهم في الهند بغية المحافظة علي نصيب معتبر لهم من سوق الإعلام العالمي, خصوصا أن الصين مغلقة أمام استثماراتهم, بينما الهند خففت من قيودها لجهة ملكية الأجانب لوسائل الإعلام منذ 2002, فصار بإمكان الأجنبي أن يمتلك 26 في المئة من أسهم المطبوعات الهندية شريطة ترك المسائل التحريرية بأيدي المواطنين.
أكاديمي متخصص في الشئون الآسيوية