يطرح هذا المقال السؤال الآتي:هل ثمة سبب جوهري يعوق التقاء الثقافات ويمنعها من التحاور؟
للجواب عن هذا السؤال يلزمك تعريف الهوية في الفلسفة الحديثة,إن لفظ هوية يعني أن الشيء مشابه لذاته والحقيقة الديكارتيةأنا أفكر إذن أنا موجودموضع شك لأنه ما الضامن الذي يسمح لي بتقرير أنالأناالذي يفكر هو نفسالأناالذي كان يفكر.ومن غير ذلك التقرير ليس لدينا هوية وإنما فيض من الشعور.وقد أوضح جون لوك هذه المسألة عندما ربط بين الشعور والفكر بقولهإن هوية الإنسان ليست إلا مشاركة لحياة متصلة واحدة ,وذلك بفضل جزئيات المادة المتباينة والمتحدة بالجسم العضوي .فالشعور في تلازم متصل مع الفكر..ومن هذه الزاوية وحدها تكون الهوية الشخصية تشابه الكائن العاقل مع ذاته والأزمة بحكم تعريفها إشكالية,والإشكالية تنطوي علي تناقض وأزمة الهوية تعني أننا أمام مرحلة متطورة للشخصية سواء كانت فردية أو جماعية ,وهذا التطور يمكن اعتباره نقلة كيفية وتناقضا مع مرحلة سابقة.ومن ثم فإن أزمة الهوية تدل علي أن ثمة تناقضا ينبغي رفعه من أجل تطوير الشخصية.وأزمة الهوية مطروحة هنا في إطار زمني محدد هو بداية القرن العشرين.
والسؤال الآن:أين التناقض؟
إن التناقض يقع بين اتصال مرغوب مع الغرب من جهة,وانفصال عنه,من جهة أخري وقد واجه طه حسين هذا التناقض في مؤلفاته,وفيما ترتب عليه من صدام ثقافي من قبل الذين يطالبون بالانفصال عن الغرب.
ففي العشرينيات من القرن الماضي أثار نشر كتاب طه حسين في الشعر الجاهلي ضجة كبري في الأوساط الأدبية العربية,الأمر الذي استلزم إعادة طبع الكتاب في السنة التالية مع إدخال تعديلات وإضافة فصل عن الأدب العربي.وتغير عنوان الكتاب إليفي الأدب الجاهليفي هذا الكتاب حاول طه حسين التدليل علي أن كما هائلا من الأدب الجاهلي زائفا وقد أستند في ذلك إلي المنهج الديكارتي يقول طه حسين:أريد أن أصطنع هذا المنهج الفلسفي الذي استحدته ديكارت للبحث عن حقائق الأشياء في أول هذا العصر الحديث. والناس جميعا يعلمون أن القاعدة الأساسية لهذا المنهج هي أن يتجرد الباحث من كل شيء كان يعلمه من قبل وأن يستقبل موضوع بحثه وهو خالي الذهن مما قيل فيه خلوا تاما .والناس جميعا يعلمون أن هذا المنهج الذي سخط عليه أنصار القديم في الدين والفلسفة يوم ظهر,قد كان من أخصب المناهج وأقومها وأحسنها أثرا,وأنه قد جدد العلم والفلسفة تجديدا ,وأنه قد غير مذاهب الأدباء في أدبهم والفنانين في فنونهم,وإنه هو الطابع الذي يمتاز به هذا العصر الحديث.فلنصطنع هذا المنهج حين نريد أن نتناول أدبنا العربي القديم وتاريخه بالبحث والاستقصاء.ولنستقبل هذا الأدب وتاريخه وقد برأنا أنفسنا من كل ما قيل فيه وخلصنا من كل هذه الأغلال الكثيرة الثقيلة التي نأخذ أيدينا وأرجلنا ورؤوسنا فتحول بيننا وبين الحركة الجسمية الحرة,وتحول بيننا وبين الحركة العقلية الحرة.ثم يستطرد طه حسين قائلا:نعم !يجب عندما نستقبل البحث في الأدب العربي وتاريخه أن ننسي قوميتينا وكل مشخصاتها,وأن ننسي ديننا وكل ما يتصل به,وأن ننسي ما يضاء هذه القومية ويضاء هذا الدين,يجب ألا نتقيد بشيء ولا نذعن لشيء إلا لمناهج البحث العلمي الصحيح.ذلك أننا إذا لم ننس قوميتينا وديننا وما يتصل بهما فسنضطر إلي المحاباة وإرضاء العواطف,وسنغل عقولنا بما يلائم هذه القومية وهذا الدينص11-12.
ويضيف طه حسين قائلا:لنجتهد في أن ندرس الأدب العربي غير حافلين بتمجيد العرب أو الغصن منهم,ولا مكترشين بنصر الإسلام أو النعي عليه,ولا معنيين بالملاءمة بينه وبين نتائج البحث العلمي والأدبي,ولا وجلين حين ينتهي بنا هذا البحث إلي ما تأباه القومية أو تنفر منه الأهواء السياسية أو تكرهه العاطفة الدينية.فإن نحن حررنا أنفسنا إلي هذا الحد فليس من شك في أننا سنصل ببحثنا العلمي إلي نتائج لم يصل إلي مثلها القدماء,وليس من شك في أننا سنبقي أصدقاء سواء اتفقنا في الرأي أو اختلفا فيه,فما كان أختلاف الرأي في العلم سببا من أسباب البغض,إنما الأهواء والعواطف هي التي تنتهي بالناس إلي ما يفسد عليهم الحياة من البغض والعداءص14.
وبعد الصدام الشهير مع الأزهر واتهامه بالكفر,اضطر طه حسين إلي إسقاط أفكاره الرئيسية وتغييرها لكي يخفض من حدة الانتقادات الموجهة إلي كتابه المذكور آنفا.ولم تكن النتيجة النهائية,بعد ذلك سوي تراجعه عن أفكاره.وأيا كان الأمر,فقد تركت هذه التجربة آثارها علي طه حسين إلي الحد الذي حفزته إلي إحيائها في قصصه ورواياته,وعلي الأخص روايةأديب.وقد كانت هذه الرواية انعكاسا لمعضلة المؤلف إزاءالأنا الآخر,أو إزاء الصديق الذي يمثل تيارا ليبراليا متطرفا في الفكر وفي المسلك وقد كان علي طه حسين أن يعاني من آثار محاولته المجهضة ومن انصياعه للقوي السلفية بعد أن استبعد الفكر النقدي الكامن في المنهج الديكارتي.وقد كان ذلك في عام 1935 وهو العام الذي نشر فيه رواية أديبوهي قصة علي هيئة رسائل موجهة إلي المؤلف من قبل صديق مجهل الهوية ,من خلال تأملات وتعليقات المؤلف علي الأحداث والأفكار والمواقف المتضمنة في الرسائل والأحداث الرئيسية تقع بين عامي 1910و1917,ومع ذلك فقد نشرت الرواية في عام .1935ومعني ذلك أن المؤلف قد احتفظ برسائل صديقه لمدة ثلاثين عاما,وبعدها قرر نشرها كتخليد لذكري صديقه والقصة هي نظرة إلي الوراء أو رؤية للحاضر من خلال مرآة الماضي.وهي رؤية تعرض للعلاقة الجدلية بين الماضي والحاضر استنادا إلي الرسائل.وهذا الصديق هو مصري مثقف من الطبقة المتوسطة ,يحيا في فترة حرجة من التغير الحضاري الذي حدث في بداية القرن العشرين ويحلم بالذهاب إلي فرنسا بمنحة دراسية للالتحاق بجامعة السوربون.وعندما ذهب إلي فرنسا تفوق في الدراسة,ومع ذلك كان يعاني من صدمة ثقافية عميقة وحادة.وكانت النتيجة أن أنغمس في ملذات الحياة الأوربية الحديثة إلي الحد الذي أصيب فيه بالجنون حتي الموت.وشخصية هذا الصديق نموذج يتكرر في كثير من الكتابات الأدبية العربية المعاصرة وعلي الأخص الكتابات المصرية إنه نموذج للمثقف المصري الذي يعاني من الآثار السلبية في مواجهة الثقافة الغربية ,كما إنه نموذج للاغتراب,فهو شاعر حساس يدرك العالم الخارجي بقواه الشاعرية التي تحيل خبرته في الحياة إلي تجربة شعرية ,أي إلي كلمات وتشبيهات وخيالات,وبذلك يغترب عن بيئته التي نشأ فيها وهي قرية مصرية وقد نشأ فيها منبوذا بسبب قبح وجهه ,بل كان منبوذا من المجتمع الفرنسي الذي لفظه علي الرغم من أنه قد شعر في لحظة معنية بأنه قد حقق طموحه ,وهكذا أحس باغتراب تام,اغتراب عن وطنه,واغتراب عن المجتمع الجديد الذي زرع نفسه فيه بعد أن أقتلع نفسه من جذوره الثقافية ,فلا هو تمثل الثقافة الجديدة التي لاينتمي إليها ولا هو تخلص من جذوره الثقافية.وأزمته هي أزمة هوية وهي تعني العجز عن حل مشكلة العلاقة بين التراث والممارسات العصرية الحداثية.فقد أحس بأنه مشدود إلي الأبد بين عالمين,وبأنه عاجز عن الأحساس بالهوية اللازمة لنمو الشخصية.
وفي إحدي المرات التي كان فيها هذا الصديق يجادل صديقه المؤلفحول اعتزامه تطليق زوجته قبل السفر إلي فرنسا,وتصميمه علي الانغماس في ملذات الحياة في باريس,أنفعل المؤلف في غضب عنيف وأدان مسلك صديقه واتهمه بالهرطقة والزبغ.ومع ذلك فعندما استعاد المؤلف ضبط النفس وتأمل تجربته ,كتب يقول:ثم تثوب إلي نفسي قليلا وإذا أنا أحس العمامة التي فوق رأسي وأحس الجبة والقفطان اللذين اللذين أسبغا علي جسمي إسباغا وأذكر أني شيخ وأني أزهري ,وأني تحدثت إلي صاحبي حديث رجل دين وأن صاحبي يسخر مني ويهزز بي ويردني إلي مكاني الأول ويري أن أمله في قد خاب,وأن اختلافي إلي الجامعة واستماعي لأساتذة أوربيين وتحدثي إليه واستماعي منه,وما قرأنا من كتب أوربية وما كنت أتكلف من التجديد والخروج علي الأزهر والأزهريين والتنكر له ولهم وكنت أرمي به من المروق إثيارا للبدعة وما كنت أجد من اللذة حين أحس أن الناس يرون في المروق وحب البدع,كل هذا لم يكن إلبا غشاء رقيقا وطلاء بسيرا لايكاد يثبت للتجربة الأولي.فإذا جد الجد وكان أول درس من دروس الحياة العاملة التي ليست كلاما ولا غرورا,فأنا الشيخ الأزهري القح الذي حفظ ما حفظ من كتب الدين وورث ما ورث من آثار القرون واحتمل في قلبه الضئيل وعلي كتفيه الصغيرتين ثقل السنين التي توراثتها الأجيال أثناء ثلاثة عشر قرنا…لقد استميت صاحبي أو أستميت حتي انتهت إلي الخزي وأحسست كأن رأسي ذاب في عماقي,وكأن هذه العمامة لم تكن تستقر علي شيء وأخذت أتضاءل في جبتي وقفطاني حتي خيل إلي أنهما يستقران علي هذا الكرسي لايملؤها شيء وأخذت قطرات العرق تسيل علي جبهتي فتبلها وكادت الرعشة أن تجري في جسمي المتضائل المضطرب,كل هذا لأن صاحبي ظهر علي جلية أمري وعرف أني مازلت أزهري النفس والقلب والعقل أري الانغماس في الحياة الأوربية إثما..وإذن فأي فرق بيني وبين هذا الشيخ الذي يعرض بالأستاذ الأمام محمد عبده فيتبقي في بعض دروسه بهذه الجملة التي شاعت عنه والتي كنا نتنتن بها ونضحك منها,وكنت أنا أشد تنادرا بها وضحكا منها:من ذهب إلي فرنسا فهو كافر أو علي الأقل زنديقص12-14هذا النقد الذاتي العنيف هو ثمرة فهم المؤلف وتقبيحه للخبرة الشرقية والغربية,والنتيجة المنطقية لكل ذلك متمثلة في مأساة هذا الصديق وهي إصابته بحالةشيزوفرينيا وهنا أستعين بنص مهم للعالم النفسي فرنسيس مكناب ذو الخبرة الطويلة والعميقة مع حالات الشيزوفرينيا إن المصاب بالشيزوفرينيا يحس بفقدان شعوره بوجوده-في العالم.ونتيجة هذا الشعور قد تضعف مشاركته في العالم وقد تتشوه وهذا من جهة,ومن جهة أخري فإن الذات علي الرغم من أنها منقسمة إلا أنها تصبح مركز الوجود وينجذب إليها جميع الأشياء وخبرته عن الواقع في هذه الحالة قد تنعكس علي تقوقعه حول نفسه حيث يشعر بهيمنة العالم عليه,حيث يبدو أنه مقتنع بأن هويته ليست موجودة في ذاته..ومن هذه الزاوية يمكن القول بأن المصاب بالشيزوفرينيا هو موجود فاقد الإرادة.
وفي نص آخر يشرح الصديق للمؤلف سبب إصابته بالشيزوفرينيا فيقول:فأشعر بأن نشأتي في مصر هي التي دفعتني إلي كل هذا دفعا وفرضت هذا كله علي فرضا,لأني لم أنشأ نشأة منظمة ولم تسيطر علي تربيتي وتعليمي أصول مستقرة مقررة,وإنما كانت حياتي مضطربة كلها أشد الاضطراب تدفعني إلي يمين وتدفعني إلي شمال وتقف بي أحيانا بين ذلك وذاك.ولو أني بقيت في مصر لأنفقت حياتي كما بدأتها في هذا الاضطراب المتصل في غير نظام وإلي غير غاية ولكني عبرت البحر إلي بيئة لايصلح فيها الاضطراب,ولاتقوي علي الحياة فيها نفوسنا الضعيفة المضطربة فلم أحس لقاءها ولم أحس احتمال الأثقال فيها ولم أحس الخضوع لما تفرضه من نظام واضطراد,ثم كانت الحرب واضطربت الدنيا وأضيف إلي نفسي فساد إلي فساد واضطراب إلي اضطراب,فقدت نفسي محورها-إن صح هذا التعبير-أصبحت لعبة تتقاذفها الأهواء.
هذا الوصف الأدبي يساير التشخيص العلمي للشيزوفرينيا ,فقد عبر الصديق عن اغتراب هويته بقوله إن ذاته قد فقدت مركزها ,وهذا القول هو مفتاح لفهم أزمة الهوية التي هي محور القصة وفي عبارة أخري يمكن القول بأنه يمكن فهم العقلية الشيزوفرينية التي رصدها طه حسين بدقه عبر صديقه الذي وصفها علي هذا النحو كتعبير عن الهوية العربية.
وعندما تخلي طه حسين العقلية الناقدة واحتفظ بالعقلية الدوجماطيقية كان بذلك قد استبعد الفكر النسبي الذي هو روح الحضارة المعاصرة واستبقي الفكر المطلي,وحافظ بذلك علي أزمة الهوية من غير حل.
وهذه القسمة التي ظلت بلا حل قد وصفها صديقه في روايةأديبعلي هذا النحو:أنك تنتظر أن أكتب إليك لأصف لك حياتي في باريس,وما كان أحب إلي أن أفعل ,ولكن حياة باريس لاتوصف في الكتب والرسائل ولاسبيل لك إلي أن تعرفها معرفة مقاربة إلا إذا حيينها علي أني أحب أن أصور لك شعوري في باريس تصويرا مقاربا غير دقيق.ولن يكون هذا التصوير بكلام أكتبه إليك فالكلام كما قلت لايغني في باريس شيئا ولكن أذهب إلي الأهرام فما أظن أنك ذهبت إليها.أنفذ إلي أعماق الهرم الكبير فستضيق فيه بالحياة وستضيق بك الحياة وستحس اختناقا وسيتصبب جسمك كله عرقا وسيخيل إليك إنك تحمل هذا البناء العظيم وأنه يكاد يهلكك ثم أخرج من أعماق هذا الهرم واستقبل الهواء الطلق الخفيف,وأعلم بعد ذلك أن الحياة في مصر هي الحياة في أعماق الهرم,وأن الحياة في باريس هي الحياة بعد أن تخرج من الأعماقص 207.
ومع ذلك فقد كان طه حسين مصمما علي إيجاد حل للقسمة الثنائية بين الشرق والغرب وذلك في كتابهمستقبل الثقافة في مصرعام .1938والفكرة المحورية فيه قناعة المؤلف بأن مصر المستقلة ينبغي أن تكون جزءا من أوربا لأن هذا هو السبيل الوحيد لأن تكون جزءا من العالم الحديث,يقول:وهذا البلد هو مصر,التي آوت الإسلام وعلومه وحضارته وتراثه المجيد,فحفظته كنزا مدخرا,إذا أتيحت لها الفرصة أخذت ترد هذا الكنز إلي الشرق والغرب جميعا,فما بال قوم ينكرون علي مصر حقها في أن تفاخر بأنها حمت العقل الإنساني مرتين:حمته حين أوت فلسفة اليونان وحضارته أكثر من عشرة قرون,وحمته حين آوت الحضارة الإسلامية وحمتها إلي هذا العصر الحديث.وإذن فكل شيء يدل علي أنه ليس هناك عقل أوربي يمتاز عن هذا العقل الشرقي الذي يعيش في مصر وما جاورها من بلاد الشرق القريب:وإنما هو عقل واحد تختلف عليه الظروف المكانية المتضادة فتؤثر فيه آثارا متضادة,ولكن جوهرة واحد ليس فيه تفاوت ولا اختلاف.
يتضح من هذا النعي أن طه حسين يقلل من شأن الفوارق الدينية.وهذا مردود إلي المنهج الديكارتي الذي تبناه في كتابهفي الشعر الجاهلي فالعلاقة المميزة للعالم الحديث في رأيه تكمن في فصل الدين عن الحضارة ولهذا فمن الممكن أخذ أسس الحضارة من أوربا من تميز دينها ولكن ذلك يستلزم شرطا واحدا وهو ضرورة أن يكون المصريون قادرين علي أحداث هذا الفصل.وهذا الفصل يحل أزمة الهوية ويحقق التحول الكيفي اللازم لخلق هوية جديدة تسمح بتجسيد الاتصال المرغوب بين الغرب والشرق.
والسؤال الآن:هل هذا ممكن؟