تتمثل واحدة من نقاط الالتقاء النادرة بين الرئيس المصري حسني مبارك والدكتور محمد البرادعي, الرئيس السابق للوكالة الدولية للطاقة الذرية وأحد الأسماء المطروحة بقوة كمرشح للمعارضة غير الحزبية في الانتخابات الرئاسية عام 2011, في قناعة الرجلين بأن مصر اليوم ليست بحاجة إلي بطل منقذ وأن الشعب وحده هو البطل القادر علي دفع عجلة التقدم الاقتصادي والاجتماعي والسياسي إلي الأمام. وفي حين عبر الرئيس مبارك عن القناعة هذه في سياق تعليق له علي تساؤلات لبعض الصحفيين حول الدور السياسي للبرادعي والتنافس المحتمل بينهما, فإن البرادعي شدد بصورة لافتة علي ذات المعني في محاولة لخفض سقف توقعات شعبية باتت تنظر إليه كمشروع بطل قومي قادر علي تغيير أوضاع مصر المجتمعية والسياسية بدفعها نحو العدالة الاجتماعية والديموقراطية, ولتشجيع حركات ونشطاء المعارضة المتحلقين حوله علي الإسهام الفعال في تحقيق حلم التغيير من دون ارتكان تابع وقاصر إلي القدرات الاستثنائية لبطل منتظر/متوهم.
ينطوي الابتعاد عن أوهام البطل المنقذ علي الكثير من المضامين الإيجابية في شأن نضج الثقافة السياسية للنخبة المصرية, حكومية ومعارضة. فمبارك, من جهته, لم يشكك فقط في جدوي البحث عن بطل منقذ أو رفع الشعب إلي مصاف البطل الوحيد, بل نفي كذلك عن نفسه كرئيس حالي مقومات البطولة وقدراتها, وهو أمر جد استثنائي حين يقارن بالنظرة الذاتية لرؤساء مصر السابقين أو بالمتواتر عن قناعات رؤساء وحكام دول الجوار. أما البرادعي فقاوم بذكاء نزوع أطياف المعارضة غير الحزبية لتصويره كبطل التغيير القادم إلي مصر بعد طول انتظار واستبدله بتقرير محورية المطلبية الشعبية بالتغيير وأهمية العمل الجماعي للمعارضة للتأسيس لتوافق عام حول وجهتي التغيير المتمثلتين في العدالة الاجتماعية والديموقراطية. بيد أن إيجابية التقاء مبارك والبرادعي علي رفض البطولة لا تلغي حضور العديد من السلبيات المرتبطة بمفردات قراءتيهما, علي تباينها, للمشهد المجتمعي والسياسي في مصر وبالمسكوت عنه بين ثنايا الحديث المعسول عن الشعب والمطلبية الشعبية.
فقراءة الرئيس مبارك, ومن ورائه نخبة الحكم بمكونيها العسكري والمدني, لا تقدم معالجة حقيقية لاستمرار تردي الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية _ خاصة معدلات الفقر والبطالة المتصاعدة وسوء مستوي الخدمات المقدمة في قطاعات حيوية كالتعليم والصحة العامة والمواصلات _ وما زالت بنيتها الإقناعية تستند بالأساس إلي إطلاق وعود التقدم القريب والتنمية المستقبلية. وفي الشأن السياسي, تتواتر في الخطاب الرسمي مفردات الإصلاح التدرجي والتحول المحسوب نحو الديموقراطية, ويساق للتدليل علي جدية نخبة الحكم في هذا الصدد العديد من الشواهد والأمثلة, أبرزها: 1- امتناع الرئيس مبارك منذ توليه المنصب الرئاسي عن تعيين نائب له كي لا يفرض علي المصريين وريثا له, 2- التعديلات الدستورية للعامين 2005 و2007 التي سمحت للمواطنين بالمفاضلة بين أكثر من مرشح لرئاسة الجمهورية في انتخابات تعددية بعد أن كان الأمر مقصورا منذ الخمسينيات علي الاستفتاء الشعبي علي مرشح وحيد, 3- ارتفاع نسب تمثيل المعارضة الحزبية وغير الحزبية في مجلس الشعب لتتجاوز في الدورة الحالية (2005-2010) 20 في المئة, 4- إنشاء عدد من المجالس القومية المنوط بها حماية حقوق الإنسان وتمكين المرأة وكذلك اعتماد نظام الكوتا النسائية في المجالس التشريعية, 5- اتساع هامش الحرية التنظيمية في المجتمع المدني وتنامي دور الصحافة المستقلة والإعلام المستقل.
ومع التسليم بإيجابية تداعيات بعض هذه الشواهد والأمثلة, إلا أنها مجتمعة تعوزها الصدقية ويسمها الاختزال إن هي رفعت إلي مقام برهان تحول ديموقراطي حدث أو هو آت عما قريب. فاستئثار النخبة ومحدودية المنافسة وغياب تداول السلطة وضعف آليات الرقابة بين السلطات ومحاسبة المسئولين وتغول الأجهزة الأمنية في ظل استمرار حالة الطوارئ منذ 1981, لا تزال هي الملامح الأبرز للحياة السياسية في مصر, ولم تتغير جديا طوال الأعوام الماضية وعلي رغم خطاب الإصلاح الرسمي. بل الثابت هو أن بعضا من الشواهد والأمثلة السالفة الذكر رتب تداعيات عكسية بينة, كما هو الحال في التعديلات الدستورية التي فرضت العديد من القيود علي ترشح المستقلين لرئاسة الجمهورية ومباشرة المواطنين لحقوقهم السياسية وحدت من إشراف القضاء علي الانتخابات.
وهكذا وفي ضوء الأوضاع المجتمعية والسياسية السائدة, يتحول الحديث الرئاسي عن الشعب المصري كالبطل الوحيد ومناط الأمل في دفع عجلة التقدم إلي الأمام – وأصداء هذا الحديث تتردد بانتظام بين جنبات نخبة الحكم وتجد ترجمتها العلنية في صياغات مختلفة, أبرزها خطاب المواطنة الرسمي وبعض شعارات الحزب الوطني الحاكم من شاكلة المواطن أولا و مصر بتتقدم بينا _ يتحول هذا الحديث إلي صورة ذهنية متخيلة ولا يعدو أن يكون تعبيرا عن رمزية جميلة يجافيها الواقع الفعلي, وبه يستبدل الشعب البطل بالشعب المكبل بالأوضاع الاقتصادية والاجتماعية المتردية وبالقيود المفروضة علي مباشرته لحقوقه السياسية والاهتمام في الشأن العام.
أما قراءة محمد البرادعي للمشهد المجتمعي والسياسي الراهن في مصر, ومعه حركات ونشطاء المعارضة غير الحزبية التي شكلت مؤخرا الجمعية الوطنية للتغيير واختارته رئيسا لها, فتواجهها كذلك العديد من علامات الاستفهام. فـ الجمعية الوطنية تنعي في بيانها التأسيسي العدالة الاجتماعية الغائبة وتنتقد سوء الأوضاع المعيشية للغالبية الساحقة من المصريين وتشدد علي أنها تهدف إلي تغييرها من دون أن تقدم رؤية برامجية متماسكة تترجم هذا الهدف النبيل إلي سياسات عامة وخطوات تنفيذية ممكنة. يترك البيان – وكذلك ما قاله البرادعي في الأحاديث الإعلامية التي أدلي بها قبل وبعد عودته إلي مصر وكذلك مواقف بعض أعضاء الجمعية الوطنية والقريبين منها – يترك المواطن المهتم بتغيير الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية في حيرة من أمره لجهة الكيفية والتفاصيل: هل تسعي الجمعية إلي قلب سياسة الحكم الاقتصادية المستندة إلي آليات السوق والخصخصة رأسا علي عقب بإعادة الدولة والقطاع العام إلي واجهة الحياة الاقتصادية؟ أم هل تهدف إلي تحقيق معدلات أعلي من العدالة التوزيعية وتقليص الفجوة المتزايدة بين الأغنياء والفقراء عبر إصلاح النظام الضريبي وتوسيع شبكات الضمان الاجتماعي وترشيد عمل اقتصاد السوق من خلال محاربة ما أفرزه من ظواهر سلبية كالفساد والاحتكار وتحالف الثروة والسلطة؟ وما الاستراتيجيات التنموية الأنجع لمكافحة الفقر, ومعدله اليوم يقترب من 20 في المئة في أكثر التقديرات تواضعا, والحد من البطالة, ومتوسطها الوطني يبلغ 15 في المئة وقد يرتفع بين بعض الفئات العمرية – بخاصة الشباب _ إلي 40 في المئة؟ عن كل هذا يصمت البرادعي ورموز الجمعية الوطنية الآخرون علي كثافة وجودهم الإعلامي, بل ويتحايلون في التحليل الأخير علي غياب الرؤية البرامجية المتماسكة بالتشديد الخطابي علي تحمل نخبة الحكم مسؤولية تردي الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية متبوعا بالربط السببي (المبسط والمخل بالحقائق المجتمعية) بين تغيير النخبة وتغيير الأوضاع وبإطلاق وعود العدالة الاجتماعية القادمة والتنمية المستقبلية, في مجاراة لمنطق الحكم ذاته وإن اختلفت الوجهة والمضامين.
كذلك تختزل الدعوة للإصلاح السياسي والديموقراطية في قراءة البرادعي و الجمعية الوطنية إلي لافتات مطلبية براقة لا يعرف المواطن المهتم كيف السبيل إلي تحقيقها. فلا جدال في أن إدخال تعديلات دستورية وقانونية تسمح بترشح المستقلين للرئاسة, وتمكين المعارضة الحزبية وغير الحزبية من المنافسة الفعلية في الانتخابات التشريعية عام 2010 والرئاسية عام 2011 بإلغاء حالة الطوارئ ورفع القيود المفروضة علي نشاط الأحزاب والحركات, وضمان نزاهة الإجراءات والعملية الانتخابية, هي جميعا خطوات إصلاحية أساسية إذا كان الهدف هو دفع مصر نحو تداول للسلطة وتحول ديموقراطي حقيقي. بيد أن المراوحة بين مطالبة نخبة الحكم بتنفيذ الإصلاح كدليل علي رشادة فعلها وبين تهديدها بانفجار مجتمعي إن لم تقدم علي تنفيذه, والذي دللت عليه المواقف المعلنة للبرادعي وبعض أعضاء الجمعية, هذه المراوحة تتميز بالكثير من الرومانسية واللاواقعية السياسية. مجددا, يعوض غياب البرامج والصمت عن الوسائل المحددة لتمكين المواطنين المهتمين من العمل المنظم للضغط باتجاه التغيير, بدءا من استخراج البطاقات الانتخابية وانتهاء بالتطوع لمراقبة الانتخابات, بقراءة رومانسية تدعو إصلاحيي الحكم إلي التغيير من دون الشروع في حوار جاد معهم, أو تهدد النخبة – وهي التي خبرت طويلا كيفية المحافظة علي استقرار الحكم علي رغم تردي الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية – بانفجار شعبي قادم غير معلوم المصدر والجهة. أما الشعب, المختار أيضا في قراءة المعارضة كبطل وحيد يستطيع بالتفافه حول حلم التغيير وجمعيته أن يحدث الفارق, فينظر له ككتلة صماء لا يراد منها إلا الانفجار عند الطلب, وهو ما يناقض جوهريا هدف التحول الديموقراطي.