لا أعرف ما الذي يشدني إلي تلك المرأة, ويجعلني أتابع كل نقلاتها السياسية, منذ اختارها المرشح الرئاسي الأسبق السيناتور جون ماكين نائبة له في الانتخابات الرئاسية الأخيرة التي جاءت بباراك أوباما ونائبه جو بايدن إلي سدة الحكم في البيت الأبيض, وحتي تاريخ كتابة هذه السطور, حيث غدت بيلين الشخصية الألمع في الحزب الجمهوري, وظهرت مؤخرا في حفل خطابي لـحزب الشاي, حيث وقف مؤيدا -لكن خلفها هذه المرة- السيناتور ماكين.
حزب الشاي اتخذ من سارة بيلين خطيبة منيفة ستنقله من ظاهرة اجتماعية مناهضة لسياسة أوباما في رفع الضرائب, إلي حركة سياسية سيكون لها وزنها وحضورها في الانتخابات النصفية القادمة في عام 2010, وتاليا في الرئاسية في عام .2012 ولحزب الشاي جذور تاريخية تمتد إلي القرن الثامن عشر إبان حرب الاستقلال الأمريكية, وقد ظهرت بوادره الأولي في عام 1773 عندما فرض الملك جورج الثالث علي المستعمرات البريطانية في أمريكا ضرائب علي الشاي المستورد من الهند, ما أدي إلي حركة رفض واسعة بين أصحاب البواخر الناقلة للشاي, وقام بعضهم برمي حمولة الشاي في البحر اعتراضا علي دفع الضرائب عليها, كما حدث في بوسطن; بينما حجزت إدارة الجمارك حمولة بواخر أخري في نيويورك وفيلادلفيا لمدة ثلاث سنوات, إلي أن تم تحرير الحمولة من قبل رجال الثورة الأمريكية, وبيعت مادة الشاي وجيرت عائدات مبيعها لصالح تمويل الثورة الأمريكية.
تتحرك سارة بيلين بين جموع مؤيديها من حزب الشاي برشاقة سياسية بليغة لم يعهدها المشهد السياسي الأميركي المعاصر من قبل. هي ابنة الـ 45 عاما, والتي صقلتها تجربتها السياسية التي بدأت رحلتها باكرا, ودفعها واقع الفرص المتاحة لكل مواطن أمريكي ذي كفاءة إلي مشارف قمة الهرم السياسي الأمريكي.
خسرت بيلين الانتخابات الأخيرة, لكنها لم تغب مطلقا عن المسرح السياسي الأمريكي, فمنذ استقالتها من منصبها كحاكمة ولاية ألاسكا, تفرغت للنشاط السياسي كمتحدثة بارزة في مؤتمرات الحزب الجمهوري; وأصدرت كتابا عن مذكراتها السياسية والشخصية حمل عنوان: الخروج عن الصراط Going Rogue, وقد تصدر الكتاب قائمة مبيعات الكتب علي موقع أمازون الشهير, حيث بيعت منه مليون ونصف المليون نسخة في الأسبوع الأول لصدوره, وقبل الإعلان عنه رسميا; وقبلت بيلين مؤخرا عرضا من قناة فوكس التلفزيونية لتقديم برنامج أسبوعي يحمل عنوان: قصص أمريكية حقيقية Real American Stories, ظهرت الحلقة الأولي منه في مساء الأول من أبريل الحالي, ولاقت نجاحا لافتا.
لسارة بيلين سمعة سياسية نضرة تجعلها متفوقة في مجال الإصلاح السياسي, والإدارة, ومحاربة الفساد, حتي لو خالفت أحيانا البرنامج السياسي لحزبها الجمهوري. ولها مواقف مشهودة في مقاومة الجماعات الضاغطة من أصحاب المصالح الخاصة, وكذلك شركات النفط الكبري العابرة للقارات. ففي فترة حكمها لولاية ألاسكا أقرت زيادة ضريبية علي أرباح الشركات الكبري, يعود جزء من عوائدها إلي دافعي الضرائب; وبالإضافة إلي ذلك, ناصرت تشريعا نص علي وجوب انقضاء سنة علي الأقل بين ترك السياسيين لمناصبهم الحكومية, وتوليهم العمل لصالح شركات الطاقة العملاقة العاملة في الولاية, وذلك في محاولة لدرء الفساد والرشوة.
وسجل بيلين السياسي سجل محافظ, ولاسيما في ما يتعلق بالقضايا الاجتماعية; فبيلين تعارض الإجهاض, وهي عضو في منظمة نسائية ضد الإجهاض تدعي ناشطات من أجل الحياة Feminists For Life, كما أنها تعارض زواج المثليين. إلا أن بيلين ليست أيديولوجية متشددة, وللتأكيد علي هذه الصفة نجد أول فيتو رفعته بيلين كحاكمة لولاية ألاسكا ضد مشروع قانون من شأنه حرمان موظفي حكومة الولاية المثليين من الحصول علي نفس الحقوق والإعانات التي تقدم للأزواج والزوجات. وقد حظيت بيلين بشعبية لافتة لدي سكان الولاية التي حكمتها في الفترة الواقعة بين عامي 2006 ـ 2009, ونالت باستمرار تقييما جيدا لسياساتها, ولكيفية تأديتها لوظيفتها, حتي بين سكان مناطق الولاية الحدودية المتسمين بالخشونة والقسوة. وقد جعلها مظهرها الجاذب, ما عرف بالماركة المسجلة (ابتسامة بيلين الشهيرة), جعلها مقبولة حتي في نظر الرجل الخشن -سائق الشاحنة في أقاصي ولاية ألاسكا.
اعتبر العديد من الصحفيين الأمريكيين أن اختيار ماكين لـامرأة لتكون مرشحة الحزب الجمهوري لمنصب نائب الرئيس, هو بمثابة محاولة للتقرب من مؤيدي هيلاري كلينتون الذين أصيبوا بخيبة كبيرة لغياب اسم كلينتون عن البطاقة الديمقراطية (عوضا عن بايدن) في منصب نائب الرئيس الحالي أوباما, الذي سارع حين توليه الحكم ليقدم لها وزارة الخارجة كجائزة ترضية عقب خروجها من سباق الرئاسة! وقد أشارت بيلين في إحدي خطبها بشكل محدد إلي كلينتون, قائلة إنه يمكننا أن نحطم ذلك السقف الزجاجي الذي أحدثت كلينتون شقوقا فيه. ويشير السقف الزجاجي إلي عائق غير مرئي يمنع النساء والأقليات من الارتقاء إلي مناصب قيادية. وكانت هيلاري كلينتون تأمل أن تخترق هذا السقف بالفوز بأهم منافسة في تاريخ أمريكا السياسي.
ومن أشرس ما تعرضت له سارة بيلين كامرأة أولا, وأم تاليا, هو تلك الانتقادات المغرضة التي تسللت إلي عقر دارها, والزوايا شديدة الخصوصية من علاقاتها مع أفراد عائلتها, بدءا من مساءلتها عن حمل ابنتها غير الشرعي -وهي السيدة المحافظة التي لم تستطع حماية ابنتها المراهقة من الوقوع في مشكلة الحمل خارج الزواج, مرورا بالاتهامات التي وجهت إليها باستخدام نفوذها حين كانت حاكمة لألاسكا, للانتقام من طليق شقيقتها, والعمل علي طرده من عمله, وصولا إلي محاكمة قدرتها, كأم لخمسة أبناء وبنات, علي إدارة منصب شديد الحساسية (منصب ناب رئيس الولايات المتحدة). وأنا لا أجد في هذا إلا افتراء وانتهاكا تعرضت له بيلين لمجرد كونها امرأة تترشح إلي منصب تنفيذي, فهل سبق أن سئل مرشح رجل لنفس المنصب, وله عدد من الأولاد, عن قدرته في إدارة عمله بما لا يتنافي مع مسؤوليته كأب؟!
وبقلم كبيرة المحررين في جريدة التايم, بيليندا لوسكومب, نقرأ: إن الأمريكيات يكرهن سارة بيلين لأنها تتمتع بقدر بليغ من الجمال! وتشير لوسكومب في مقالها الذي حمل عنوان لماذا تكره بعض النساء الأمريكيات سارة بيلين, وذلك في إشارة إلي سيكولوجية المرأة تجاه بنات جنسها قائلة: كنا في المدرسة نكره الفتيات الجميلات, وكنا نغتابهن دائما. ونصحت الكاتبة الأحزاب الأميركية في حال ترشيح امرأة إلي منصب ما الابتعاد عن اختيار امرأة جميلة لأنها ستثير غيرة النساء الناخبات, علي أن يراعي في الوقت نفسه أن لا تكون المرشحات قبيحات لأن الرجال في حالها لن يمنحوهن أصواتهم. وختمت التايم أن المشكلة الأعظم لدي بيلين هي أنها تعاني من الشعور بالفوقية, فالنساء حسب لوسكومب إما أن يكن خجولات جدا أو مغرورات جدا, وأن سارة بيلين تنتمي إلي النوع الثاني الأكثر إثارة للغيرة والحنق من قبل النساء حصرا.
أمريكا الفرص والخيارات الكبري لم تبد لي مهيأة لتنصب امرأة علي الكرسي التنفيذي الأعلي لدولتها العظمي ولا علي نيابته, بينما قررت بإجماع منقطع النظير أن تمنحه إلي رجل أسود, ولأول مرة في تاريخها منذ تحرير السود. فهل التمييز ضد المرأة هو آخر أعراض التفرقة العنصرية التي مازالت تنخر المخ البشري, مهما ارتقي في سلم المعرفة والحضارة؟ وهل تنجح أمريكا في السنوات الأربع القادمة أن تتحرر من عقدة الفصل العنصري علي أساس الانتماء الجنسي كما نجحت في حسم أمرها علي أساس العرقي منه, وانتخبت أوباما الأسود سيدا للبيت الأبيض؟
كل الإشارات تنبئ أن سارة بيلين, وبذكائها السياسي الغرائزي, خرجت من تجربتها الانتخابية العسيرة بزاد أغني, وشعبية أوسع, وتصميم أكبر علي خوض المعركة الانتخابية مجددا في عام 2012, ولكن مباشرة إلي سدة الرئاسة, وليس النيابة هذه المرة, معززة بأتباع ومريدين وجدوا فيها وفي حركة حزب الشاي طرفا ثالثا في الحياة السياسية الأمريكية التي تفرد بها الحزبان الجمهوري والديموقراطي بلا منافس حقيقي ثالث.