لقد عرفت الولايات المتحدة منذ نشر كتاب الديموقراطية في أمريكا الرائع لأليكسي دي توكفيل في عام 1835 علي الأقل بمزاوجتها الخاصة بين الرأسمالية والديموقراطية, واتخاذ القرارات غير المركزية في المجالين الاقتصادي والسياسي.
ورغم عدم وجود تعريف متفق عليه بالإجماع للرأسمالية إلا أنها أصبحت النظام الاقتصادي شبه العالمي منذ عام 1990 , والذي يضم الصين والهند, ورغم أنه لا يضم كوبا وكوريا الشمالية.
ويظل تعريف الديموقراطية أكثر صعوبة, ويختلف عدد الديموقراطيات باختلاف التعريف المستخدم. ويري أستاذ العلوم السياسية بجامعة ييل, روبرت دال, أنه يمكن تصنيف أكثر من نصف الدول الأعضاء المائتين في الأمم المتحدة, والتي تمثل حوالي ثلثي سكان العالم, كأنظمة ديموقراطية.
وبذلك تكون الرأسمالية, رغم عدم التوصل إلي تعريف دقيق متفق عليه لها, قد أنجزت هيمنة شبه كاملة علي الاقتصاد العالمي, وأصبحت الديموقراطية النموذج المعياري, ولو أنها أقل هيمنة في الواقع ( لقد أقامت الصين نظاما رأسماليا ناجحا ضخما ولكنها ما زالت تعتمد نظاما فاشستيا استبداديا).
وعلينا أن نتوصل إلي تعريف أكثر دقة للرأسمالية والديموقراطية قبل أن يصبح بمقدورنا التكهن بما إذا كانتا ستستمران في الهيمنة كنظامين للتجارة والحكم. أولا, هناك أنواع مختلفة من الرأسمالية . ويختلف النوع الأمريكي عن الأوربي, علي سبيل المثال, النوع الأوربي يفرض قيودا أكثر علي تنظيم السوق وتوزيعا أكثر مساواة للدخل بين المواطنين.
ثانيا, تميل المناقشات المتعلقة بالديموقراطية إلي التركيز علي عمليات لتحفيز مشاركة المواطنين بينما تتجاهل دراسة ما إذا كانت تلك المشاركة تضمن بالفعل نتائج ديموقراطية. وقد وصف خطاب الرئيس إبراهام لينكولن في جتسبيرج في عام 1863 الحرب الأهلية بأنها اختبار لما إذا كانت ##حكومة الشعب, من الشعب, ومن أجل الشعب## ستكون قابلة للاستمرار. وكما ألمح لينكولن فإن الحكومة من الشعب لا تضمن وجود حكومة من أجل الشعب. ولدي إلقاء لينكولن ذلك الخطاب, كانت الولايات المتحدة قد تمتعت بالفعل بحكومة من الشعب علي مدي قرن تقريبا, ومع ذلك فقد تغاضت عن الرق, وكأن السود ليسوا بشرا. كما تغاضت بنفس القدر تقريبا عن حقوق المرأة السياسية.
وعلاوة علي ذلك فإن النموذج الدستوري الأمريكي يقسم السيادة بين ثلاث سلطات للحكومة _ التشريعية والتنفيذية والقضائية _ في حين أن معظم الأنظمة الديموقراطية الأخري تتبع النموذج البريطاني الأقدم, الذي يركز السيادة في مجلس النواب المنتخب من قبل الشعب.
تعريف الرأسمالية
في ما يلي محاولة لتقديم تعريف يمكن الأخذ به للرأسمالية, ولإظهار كيفية نشوئها عبر التاريخ, وكذلك اقتراح بعض الشروط المواتية, وربما الأساسية, للديموقراطية.
يعرف اقتصاديون كثيرون الرأسمالية علي أنها تقريبا نظام حقوق ملكية متساو في الامتداد مع الأسواق الحرة لإنتاج واستهلاك السلع والخدمات, محكوم بـ ##اليد الخفية##, حسب تعبير آدم سميث الشهير, التي تحدد الأسعار بشكل متناسب مع العرض والطلب.
وأفضل شخصيا تعريف بعض أساتذة العلوم السياسية للرأسمالية كنظام حكم ينشأ بسماح الدولة لأطراف من غير مسئولي الدولة بممارسة السلطة الاقتصادية, شرط خضوعهم لمجموعة من الأنظمة والقوانين. وبموجب هذا التعريف, تعتمد الرأسمالية علي تفويض الدولة سلطة للاعبين اقتصاديين, وأيضاعلي القدرة القسرية التي تملكها الدولة لوضع ومراقبة قوانين السوق وفرض تطبيقها في نهاية المطاف. وتنسق آلية تحديد الأسعار العرض والطلب ضمن إطار سوق معين, في ما تفرض يد الحكومة المرئية إطار العمل وتحافظ علي بقائه حديثا لا يتجاوزه الزمن.
وفي حين أن هناك حاجة لمساءلة الدولة حول شرعيتها وتحميلها مسئوليتها, فإنه من غير الضروري أن تكون مسئولة أمام حكومة منتخبة ديموقراطيا لكي تزدهر الرأسمالية.
وقد ظهرت الرأسمالية إلي الوجود قبل ظهور الدول الديموقراطية الكبري بكثير, ويعتبر أساتذة العلوم السياسية وجود قرارات غير مركزية مبنية علي نظام السوق في الاقتصاد مطلبا أساسيا للسلطة السياسية غير المركزية عن طريق الديموقراطية .
ومع أنه يبدو أن الديموقراطية علي مستوي المدن تعود إلي أيام الإغريق والرومان القدماء, إلا أنه لم تكن هناك أي دول ديموقراطية قد ظهرت بوضوح قبل ملاحظات دي توكفيل المتعلقة بأمريكا, ونموذجه الأمريكي, وهو الحالة الوحيدة التي يمكن للبعض أن يجادل بأن نظامي الحكومة الديموقراطية والرأسمالية تطورا معا فيها منذ حوالي عام .1630
وقد أقر المؤرخ فيرناند بروديل, الذي أعاد جذور الرأسمالية إلي ما بين عامين 1400 و1800, بأنه لم يتمكن من تعريف الرأسمالية, مع أنه أدرك, وهو أمر مهم, بأنه نظام علاقات اقتصادية يتعارض مع النظام الإقطاعي, وهو نظام آخر للعلاقات الاقتصادية. والمتاجرة بالسلع والخدمات كانت موجودة في سياقات إقطاعية متعددة كتلك التي مارستها إمبراطوريتا الأزتك والإنكا واليابان إبان حكم الجنرالات العسكري (شوجن) والإمبراطورية الصينية والهند والإمبراطورية العثمانية.
التخلي عن سلطات
تتطلب الرأسمالية حرية الحركة والانتقال وتوظيف العمال والحق في شراء وبيع الأراضي, وهي أمور لم تكن متسقة مع النظام الإقطاعي. وهي تسلم بأن الفائدة عائد مشروع لرأس المال, وتوفر حق الجهات غير الحكومية في حشد واستخدام رأس المال عن طريق وسائل قانونية كالشراكات وشركات الأسهم المشتركة والشركات الحديثة. وتنطوي جميع هذه الحريات ضمنا ليس علي نهاية النظام الإقطاعي فحسب, بل أيضا علي استعداد الدولة ذات السيادة للتخلي عن مثل هذه السلطة لأطراف غير حكومية.
وهناك عدد من الظروف والشروط المواتية لاستمرار الديموقراطية , بينها ارتفاع الدخل وتجنب عدم المساواة المفرط في كيفية توزع الثروة والسلطة ووجود طبقة وسطي قوية ومعبأة جيدا ومجموعة قوانين أخلاقية مقبولة وموازنة بين مصلحة الأفراد الشخصية ومسئوليات المواطنة.
وتحتاج إقامة الشروط الأساسية لدعم الديموقراطية عقودا طويلة, ويجب ألا يتم التعجيل بالبدء في تطبيق الديموقراطية قبل الأوان , كما حدث في البوسنة وكوسوفو والعراق ولبنان والضفة الغربية. وقد تمتع عدد من الدول الأوربية, كبريطانيا وهولندا, بأساليب حكم جيدة قبل أن تصبح دولا ديموقراطية بوقت طويل.
ولا يعني وجود الدساتير وإجراء الانتخابات أن الديموقراطية تحققت بالضرورة, كما يتضح في دول مثل نيجيريا وفنزويلا وزمبابوي. ومن الممكن للزعماء المنتخبين التلاعب بالدساتير والانتخابات, وقد يؤدي التركيز علي إقامة هذه الجوانب الإجرائية في حقيقة الأمر, إلي تأخير نشوء الديموقراطية, ناهيك عن نشوء حكومة من أجل الشعب, وهو أمر أكثر صعوبة.
أستاذ لإدارة الأعمال في كلية الأعمال بجامعة هارفارد
##يو إس جورنال##