لا تكف جماعات الإسلام السياسي بتكويناتها المختلفة, والكتاب المتبنون للفكرة الإسلامية باعتبارهاالحللكل مشاكل البلاد والعباد, عن حديث الشرعية, سواء في تطبيقاتها المحلية أو الدولية, حتي باتوا كلهم خبراء في الدساتير والقوانين. ولا يخلو الأمر في كل الأحوال من اعتبار الديموقراطية معيارا لهذه الحالة من القبول السياسي; وطالما يريد الناس الجماعات الإسلامية أو هكذا يجري الاعتقاد, فإن كل ما عدا ذلك لا بد أن يكون خارجا عن الشرعيةوعلي الناس ليس فقط أن تسلم رقابها لهذه الجماعات, ولكنها بعد التسليم ليس عليها أن تحاسبها علي النتائج.
وعندما قامت حماس بانقلابها علي السلطاتالشرعية في فلسطين, فإن الحديث عن حسابها أو تقييم أدائها كان رده دائما بأن جماعة حماس قد جري انتخابها في انتخابات حرة, وفي هذا ما يكفي ويزيد لكي تفعل المنظمة الفلسطينية ما تريد من دون محاسبة أو تقييم.
ولا توجد حالة من الخرف الفكري والسياسي قدر هذا القول, فما حدث هو أن الجماعات السياسية قد عملت بدأب كبير علي تدمير الدولة العربية الحديثة, وبعد تدميرها باتوا يريدون تطبيق الديموقراطية عليها لمرة واحدة لا يعدل الناس بعد ذلك منها أمرا مرة أخري. ولمن لا يعلم فإن مفهومالشرعيةينطبق علي ثلاث عمليات سياسية تميز الدولة الحديثة عن الدولة القديمة أو التقليدية. فعلي غير ما يعتقد كثيرون, فإن كل الدول تاريخيا ليست سواء, فالدولة القديمة كانت تتسع وتنكمش حسب ما تستطيع جيوشها أن تهاجم أو أن تدافع. وفي العادة فإنها تضم جنسيات ومللا شتي, وسواء كنت في الإمبراطورية الرومانية أو الإمبراطورية العربية الإسلامية, فقد كانت الشرعيةهي قدرة الإمبراطور أو الخليفة أو الملك أو الأمير علي الاحتفاظ بالمملكة أو الإمارة أو الوحدة السياسية في العموم. ومن الطبيعي في هذه الحالات أن تستند الشرعية إلي طبقة سياسية من العسكر وأسرة حاكمة وجماعة من الكهنة أو علماء الدين والعرافين الذين يدعون للإمام بالنصر ويتأكدون دوما من تبعية الرعية ومسار النجوم وتنبؤات المستقبل ما خفي منها وما ظهر.
الدولة الحديثة أمر آخر تماما, وتاريخها لا يزيد علي بضعة قرون, وأشهرتها فلسفة العقد الاجتماعي, والثورات الأمريكية والفرنسية, حينما برزت الدولة القومية أو الوطنية التي يتفق فيها جماعات وأفراد أولا علي أن يكونوا جماعة سياسية واقتصادية واحدة; وثانيا أن هذه الجماعة الجديدة سوف تترابط فيما بينها من خلال نوعية جديدة للولاء ليس للملك أو لدين بعينه أو طائفة بعينها وإنما من خلال فكرة المساواة بين المواطنين; وثالثا أن يتوافق كل هؤلاء علي نوعية من الحكم المقبول منهم لإدارة الدولة وسن قوانينها. معني ذلك أن الدولة الحديثة تتضمن ثلاثة أنواع من الشرعية: شرعية الجماعة السياسية (التي تربط اللبنانيين والفلسطينيين والمصريين علي سبيل المثال), وشرعية الدولة (مصر ولبنان وفرنسا), وشرعية نظام الحكم ( جمهوري وملكي وديموقراطي وشمولي).
والحقيقة أن جماعات الإسلام السياسي بأشكالها المختلفة ومفكريها المتنوعين قد عملت علي تدمير كل هذه الأنواع من الشرعية, ومن يلاحظ الدول التي حكموا أو تحكموا فيها سوف يجد أنهم قد دمروها تدميرا شديدا. ومن يلاحظ شؤون أفغانستان قبل غزو حلف الأطلنطي, والسودان قبل أزمة دارفور, والصومال قبل دخول القوات الإثيوبية, ولبنان وفلسطين مؤخرا, سوف يجد إلي أي حد مزقت هذه الجماعات المعتدلة والراديكالية النسيج السياسي للوحدة السياسية سواء كانت دولة أو حركة وطنية. فعندما وضعت هذه الجماعات الدين معيارا للمواطنة حينما قالتلهم ما لنا وعليهم ما علينا فإنها نسفت من الأساس الفكرة التي تقوم عليها الجماعة السياسية التي لا يمنح فيها طرف ما تجب عليه الأحوال مع أطراف أخري. وعندما جعلت هذه الجماعات ولاء المواطنين ليس إلي الدولة ـ التي تعني سلطة مركزية ذات سيادة علي شعب موجود علي رقعة جغرافية بعينها ـ وإنما إلي الأمة الإسلامية المترامية الأطراف, فإنها جعلت الدولة هامشية أو لا وجود لها أو مجرد غزوة ناجحة تنتظر بقية الغزوات والفتوحات. وعندما قالت هذه الجماعات إن الإسلام هو الحل وان الشريعة هي المصدر الرئيسي للتشريع فإنها جعلت النظام السياسي بلا فائدة حينما غلبت الفتوي علي التشريع, والثوابت علي المتغيرات, والفكرة السابقة علي وجود الدولة علي التطبيق في ظروف وشروط وبيئة عالمية ومحلية بعينها.
وربما يرد علي ذلك عدد من الاستثناءات المحدودة في تركيا والمغرب وإندونيسيا من أحزاب سياسية دينية إسلامية سارت علي طريق الأحزاب الديموقراطية المسيحية التي جعلت الدين مرجعية أخلاقية وضميرية تعزز من قدرة الدولة الحديثة ولا تقوضها, وتعطيها بعدا روحيا ولا تأخذ منها ارتباطها بالعالم المعاصر. فهذه الأحزاب لا تجد مشكلة في الانضمام إلي الاتحاد الأوربي لأن قضيتها هي التقدم, ولا تجد قضية في الرأسمالية لأنها لا تعتقد في إعادة اختراع العجلة في عملية التنمية, ولا تجد صعوبة في التعامل مع الغرب لأنها لا تبدأ من تعريف للمسلم يجعله في حالة نضال مستمر مع كل الدنيا, ولا تعتبر نوعا من الاستحالة إقامة الجسور بين أفكار حرة للفرد والجماعات السياسية. ولكن للأسف فإن هذه الاستثناءات لا تزال محدودة, وهي تتعرض لضغوط متنوعة من حركات أصولية إسلامية, بل حركات أصولية علمانية كذلك, وللأسف أكثر فإنه لا يوجد الكثير منها في العالم العربي الذي تنتشر فيه جماعات وأحزاب للإسلام السياسي تجد في الدولة المعاصرة خصمها الرئيسي.
وربما لا توجد دولة عربية تماثل مصر في نضوج الدولة الحديثة منذ وضع محمد علي قسماتها الأولي, وتوجتها تجربة ثورة 1919 التي صهرت الجماعة السياسية بين المصريين علي اختلاف مشاربهم في الدولة المصرية التي تنظمها مجموعة من الدساتير بدأت عام .1923 ومنذ ذلك التاريخ تقريبا بدأ التحدي لهذه الدولة من خلال تجارب استعادة فكرة الخلافة الإسلامية, ومولد جماعة الإخوان المسلمين عام 1928 الذين لم تكن لهم مشكلة مع الحكومات المتعاقبة ـ ملكية وجمهورية, رأسمالية واشتراكية وما بينهما ـ وإنما مع الدولة ذاتها وطبيعتها والتوافق الذي قامت عليه. وخلال هذه الفترة فإن الجماعة لم تكن لديها مشكلة كبيرة مع النظام السياسي للاستبداد, وربما اعتبرته من الأمور الطبيعية في الدولة الإسلامية التي كانت فيها طبائع الاستبداد غلابة طوال التاريخ, ولكن المشكلة كانت دوما معهويةالدولة وعلاقتها مع العالم المعاصر. ومؤخرا فقط بدأت الجماعة في استخدام الديموقراطيةباعتبارها سلاحا سياسيا لإحراج السلطات السياسية; ولكنها في نفس الوقت كانت تعمل علي تقويضها من خلال شعارالإسلام هو الحل, والحذف العملي لكلمة المبادئ من المادة الثانية من الدستور التي تقول إن مبادئ الشريعة الإسلامية هي المصدر الرئيسي للتشريع.
وأخطر من كل ذلك كانت السيطرة الدينية علي المجتمعات والأحياء والشوارع والمباني الحكومية من خلال عملية منظمة تتذرع كلها بالدين لإعادة تكوين الأفراد وولاءاتهم, وتحدي سلطة الدولة. وحتي هذه اللحظة فإن الدولة المصرية المعاصرة لا تزال صامدة لأسباب متنوعة ليس هذا مجال ذكرها, ولكن ما يهمنا هو كيف يكون مثل هذا الصمود في دول ووحدات سياسية وعربية وإسلامية أخري ليس لديها مثل هذه الأسباب؟