عندما يقوم طلاب المرحلة الثانوية في الولايات المتحدة بالمفاضلة بين الجامعات بعد إنهاء دراستهم تكون جامعة هارفارد Harvard University هي الاختيار الأول. حتي وإن لم يتقدم عدد كبير منهم لتلك الجامعة, وحسمهم خياراتهم بعيدا عن التقدم لها, فإن عديدا من الطلاب الجامعيين علي مستوي العالم يفضلون التقدم لجامعة هارفارد, وفي الغالب يصابون بخيبة الأمل حينما يصلهم رد هارفارد بأنها لم تقبل سوي 7% من المتقدمين لها في عام .2009
وحينما يثار التساؤل حول سبب تقدم هذا العدد الكبير من الطلاب لجامعة هارفارد ويتكلفون عناء دفع تكاليف استمارات التقدم التي تبلغ حوالي 65 دولارا فإن الإجابة تكون معروفة لأنها أفضل جامعة علي مستوي العالم, واحتمال القبول والدراسة بهذه الجامعة يستحق العناء. إذ تتمتع هارفارد بهذا الصيت الذائع كقمة للتعليم العالي خلال القرون الأربعة الماضية; بسبب اجتذابها للطلاب المؤهلين, وهيئة تدريسها المتميزة. فضلا عن تمكن طلابها من الحصول علي فرص أوسع نطاقا للتوظيف بعد الدراسة.
تاريخ هارفارد.. من البروتستانتية للعلمانية
بداية يثار تساؤل مهم حول كيفية وصول هارفارد إلي أوج الاحترافية في المجال الأكاديمي. وإذا ما استعرضنا تاريخ تأسيسها سوف نجد دلالات مهم حول محددات نجاحها كمؤسسة, فلقد تم تأسيس هارفارد في عام 1636 تحت مسمي الكلية الجديدة New College بقرار من المجلس التشريعي لمستعمرة ماساشوستس. وبذلك يمكن اعتبارها أقدم مؤسسة للتعليم العالي في الولايات المتحدة. وقد تم تغيير اسمها لاحقا إلي كلية هارفارد Harvard College في عام 1639 عندما قام جون هارفارد John Harvardرجل الدين البروتستانتي بالتبرع بنصف تركته و400 كتاب من مكتبته الخاصة لصالحها. وعلي الرغم من أن الجامعة والمقررات الدراسية بها لا تتبع انتماء دينيا بعينه, فإنها قد تشبعت بالفلسفة البروتستانتية. وفي الواقع فإن عديدا من خريجي الكلية في بداياتها قد اقتفوا أثر جون هارفارد وعملوا رجالا للدين.
لكن مع تولي جون ليفيرت John Leverettلرئاسة الجامعة كأول علماني من خارج طائفة رجال الدين البروتستانت يتولي إدارتها في 1708, فإن الكلية بدأت تفقد طابعها البروتستانتي, واضعا بذلك اللبنات الأولي في تحويل هذه الجامعة لتتبوأ مكانتها الراهنة علي قمة العالم الأكاديمي الحديث. في حين قام رئيس آخر للجامعة وهو تشارلز ويليام إليوت Charles William Eliot بإدخال إصلاحات من قبيل المقررات الاختيارية, ومحدودية عدد الطلاب في قاعات الدراسة, وامتحان الدخول للجامعة, واضعا بذلك أسس النظام الأمريكي الحالي للتعليم العالي.
لم تكن إجراءات الإصلاح الأكاديمية وحدها السبب الرئيسي في ازدهار جامعة هارفارد, حيث يضاف إلي ذلك تلقيها لتمويل كبير من جانب الحكومة الأمريكية علي مدار قرنين من عمرها. ولكن في عام 1824 تم إصدار قانون يحرم تقديم أي تمويل حكومي للجامعات الخاصة. وفي الواقع استفادت هارفارد من النظام القديم, إلا أن السياسة الجديدة فتحت الباب لفرص أوسع نطاقا مع تلقي هارفارد لتمويل من جانب خريجيها من الطبقة العليا في بوسطن. ومع حلول عام 1850 تضاءلت الهبات الممنوحة للجامعات الخاصة المماثلة لهارفارد مثل وليامز Williamsوأمهرست Amherst وييل Yale, في مقابل تمكن هارفارد من تطوير مواردها الأكاديمية وبناء المنشآت في الوقت الذي أخفقت فيه الجامعات الأخري من تحقيق ذلك.
وفي هذا الصدد يمكن القول إن الهبات الممنوحة لهارفارد مكنتها من التوسع من مجرد كلية للآداب والعلوم إلي جامعة تتضمن ثماني كليات إضافية تشمل كلية هارفارد الطبية, وكلية القانون, وكلية إدارة الأعمال, وكلية جون كيندي للحكومة, وجميع المؤسسات ذات الشهرة في مجال تخصصها. فضلا عن اعتبارها واحدة من المؤسسات البحثية المتميزة علي مستوي العالم.
تعتبر العلاقة بين سمعة جامعة هارفارد الأكاديمية وأدائها كأفضل جامعة علي مستوي العالم علاقة ذات طابع دائري. فمع انتشار صيت هارفارد, تصاعد عدد الطلاب الراغبين في التقدم للدراسة بها, وتزايد اعتماد المؤسسات المختلفة علي خريجيها. والخريجون بدورهم يقدرون الفرصة التي منحتهم إياها هارفارد بالدراسة بها من خلال تفضيل التبرع لصالحها. وتقوم الجامعة بدورها باستخدام التبرعات في تحديث منشآتها وتوسيع نطاق التخصصات بها, وتدشين الكليات المتميزة, وتطوير مواردها الأكاديمية, ومن ثم الارتقاء بسمعتها الأكاديمية.
ثقافة الاختلاف والتعددية والمشاركة
بمرور أربعة قرون من التطوير المستمر والصعود لقمة العالم الأكاديمي, فإنها تتمتع حاليا بكافة العوامل الداعمة لاستمرار نجاحها كجامعة متميزة. ويمثل الطلاب أول هذه العوامل, حيث يتميز الهيكل الطلابي لجامعة هارفارد بالتنوع والموهبة والحافزية, ففي عام 2008 كان حوالي 95% ممن قبلتهم جامعة هارفارد للدراسة بها من أعلي 10% من خريجي المدارس العليا high school class. وهذا الأمر ليس غريبا لاعتياد هارفارد علي قبول أكثر الطلاب تأهيلا علي مستوي العالم. بيد أن القائمين علي إدارة هارفارد يقدرون قيمة التنوع; ولذلك تضم طلابا من شتي بقاع العالم, ومن خلفيات اقتصادية واجتماعية متنوعة. ومن ثم يرتادها 7 آلاف طالب من الصين وسوريا والبرازيل وجميع أنحاء العالم, وكافة أنحاء الولايات المتحدة لجلب مختلف التوجهات والآراء والأفكار للجامعة. ومن ثم يتمكن الطلاب من التعلم من خبرات بعضهم بعضا ليتكسبوا معرفة لم يكن لهم أن يحصلوا عليها في جامعة يتشابه جميع طلابها في آرائهم ومظهرهم وتصرفاتهم.
لقد انعكس الاهتمام بقيمة التفاعل بين الثقافات المختلفة وأهمية الأنشطة الطلابية في قيام الجامعة بتوفير فرص متعددة للتفاعل بين الطلاب وتطوير مهاراتهم خارج قاعة الدراسة. فتكونت حوالي 400 منظمة طلابية رسمية داخل الحرم الجامعي متضمنة مجموعات للفنون المختلفة و41 فريق رياضي رغم عدم تقديم منح دراسية لممارسي الأنشطة الرياضية وأكثر من 50 جماعة إثنية وثقافية, واتحاد الطلاب والمنظمات الخدمية وجماعات النشر والنقاش. وبعض هذه المنظمات معروفة خارج الجامعة مثل الصحف الخاصة بالكليات المختلفة وصحيفة هارفارد القرمزية Harvard Crimson تحديدا التي تضمنت أسرة تحريرها الرئيس الأمريكي السابق جون كيندي John F. Kennedy وأعضاء نادي جلي Harvard Glee Club أقدم كورال في جامعات الولايات المتحدة. علاوة علي ذلك فإن مكانة هارفارد كجامعة تجذب إليها عديدا من الساسة والمؤلفين والعلماء لمناقشة مختلف الموضوعات التي تشغل اهتمام المجتمع الأمريكي لتمنح طلابها بذلك الخبرة العملية, والمنظورات المختلفة في معالجة شتي القضايا.
بيئة أكاديمية وعملية مثالية
يتمثل العامل الثاني لتميز جامعة هارفارد في أعضاء هيئة التدريس بها. بالنظر إلي التزامها بمساعدة طلابها علي التفوق, ورغم أن هذه الجامعة تضم حوالي 2400 أستاذ جامعي بعضهم حائز علي جوائز نوبل Noble وبوليتزر Pulitzer Prize الذين قد يكونون متعالين في بعض الأحيان, فإن الجامعة تدفع أساتذتها لإدراك أن الطالب له الأولية, ومن ثم لا يركز التدريس علي الحقائق فحسب وإنما علي الأفكار; بما يجعل الطلاب يغادرون قاعة الدرس بفهم أفضل لكيفية وأسباب حدوث الظواهر المختلفة.
وفي السياق ذاته يركز التدريس في جامعة هارفارد علي إكساب الطالب مهارات التعلم وتوجيه الطلاب خلال المشروعات البحثية والمناقشات, ويكون ذلك متاحا لأن أكثر من نصف المقررات الدراسية لا يتجاوز عدد طلابها 10 طلاب بما يسمح للأستاذ بتخصيص ساعات مكتبية أسبوعية لتلقي أسئلة الطلاب ومناقشتهم بصورة أكثر تعمقا وتنشأ من ثم علاقات وثيقة بين الطلاب والأساتذة تنعكس بصورة إيجابية علي حافزية الطلاب للتعلم والمشاركة والمحيط الأكاديمي للجامعة بشكل عام.
أما العامل الثالث لنجاح هارفارد فهو الموارد الأكاديمية التي توفرها لطلابها والتي لا يمكن مقارنتها بموارد أي مؤسسة أخري علي مستوي العالم. فنظام المكتبة الجامعية بها علي سبيل المثال يعد الأضخم بعد مكتبة الكونجرس الأمريكي the Library of Congress والمكتبة البريطانية the British Library والمكتبة الوطنية الفرنسية the French Bibliothque Nationale ويتكون من 80 مكتبة فرعية تضم حوالي 15 مليون إصدار علمي. ناهيك عن الكتب النادرة والمخطوطات والمجموعات الخاصة لمساعدة الطلاب في أبحاثهم, ولتحقيق تقدم أكاديمي مضطرد. كما تضم هارفارد عديدا من المراكز البحثية والمعامل المتطورة وطائفة متنوعة من المتاحف العلمية والفنية والثقافية.
تنافسية هارفارد في سوق العمل العالمي
يمثل العامل الرابع في تفوق جامعة هارفارد في فرص التوظيف واسعة النطاق التي يحظي بها خريجوها رغم الادعاءات بتصاعد معدل التقديرات بصورة سلبية في هارفارد, فإن الجهات المختلفة لا تزال تثق في أن خريجي هارفارد علي قدر عال من الكفاءة مقارنة بغيرهم بما يمنحهم ميزة تفضيلية. فضلا عن أن خريجي هذه الجامعة قد تولوا مختلف المناصب الكبري بالولايات المتحدة ومن أهمهم الرؤساء الأمريكيون جون آدمز John Adams وتيودور روزفلت Theodore Roosevelt وفرانكلين روزفلت Franklin Roosevelt وجون كيندي John F. Kennedy وباراك أوباما Barack Obama. والكتاب من أمثال هنري ديفيد ثورو Henry David Thoreau, ورالف والدو امرسون Ralph Waldo Emerson. وعديد من المفكرين المرموقين والساسة والممثلين والموسيقيين ورجال الأعمال; ولذا يظل السبب الأول للإقبال علي الالتحاق بهارفارد هو ضمان الحصول علي وظيفة أفضل بعد التخرج
ختاما يمكن القول: إن جامعة هارفارد تمكنت علي مدار أربعة قرون مضت من الارتقاء بأدائها الأكاديمي لتصبح أعظم المؤسسات الأكاديمية علي مستوي العالم, بالنظر إلي اكتسابها لمكانة مرموقة وهو ما يرتبط بنجاح القائمين علي إدارتها في تحقيق التوافق بين مختلف عوامل النجاح من اجتذاب الطلبة المتميزين وأعضاء هيئة التدريس المرموقين وتطوير الموارد الأكاديمية غير المتواجدة في أي مؤسسة جامعية أخري في مختلف أنحاء العالم, ولذا لا يجد الطلاب بيئة أكاديمية مثالية كهذه تراعي التنوع الفكري والثقافي والمشاركة الطلابية سوي في جامعة هارفارد
تقرير واشنطن