يتأسس الإرهاب الفكري علي نزعة أصولية قوامها التعامل مع الوجود من منطلق التمركز حول شخص أو حدث _ واقعي أو متخيـل- يتخذ معيارا للمعرفة, ودليلا وحيدا للحقيقة. ومن ثم فلا مجال لاختبار صواب أو خطأ المعتقد , وإنما المطلوب _ حسب – العمل علي تثبيته بكل الوسائل بما فيها استخدام القوة أو التهديد بها ماديا أو التلويح بمخرجاتها معنويا . محاكم التفتيش في القرون الوسطي الأوربية نموذج للنوع الأول , و##ماكارثية## القرن العشرين نموذجها الثاني , أما النوع الثالث [ التهديد المعنوي ] فمشترك بين العقائد التي تنذر بعذاب ما بعد الموت , لمن يفكر , مجرد تفكير , في الخروج علي نصوصها حسبما يفسرها الكهنوت السائد.
وفي تاريخنا العربي الإسلامي مثال علي الجمع بين تلك النماذج الثلاثة في وثيقة واحدة . . تلك هي الوثيقة التي أصدرها الخليفة القائم العباسي (1040 ميلادي = 433 هـ) بتقنينه ما أسماه أبوه الخليفة القادر ##العقيدة الصحيحة ## في بنود محددة : تكفير كل من لا يسلـم بأن كلام الله قديم وأن أفعال الإنسان مـقدرة سلفا, وأن المؤمن ليس له أن يسأل عن أسباب الله , حتي وإن عاقب المحسن ونـعم المسيء (أنظر شرح العقيدة للإمام السنوسي . ت 895 هـ ) ويقوم الاعتقاد ## القادري ##أيضا علي تكفير من يقــدم الإمام علي بن أبي طالب علي الشيخين,وإخراج الذي يتقول علي عائشة من الملة, ونفي صفة المسلم عمن يجحد معاوية , وأما تارك الصلاة فلا يصلي عليه , و يحشر يوم القيامة مع فرعون وهامان وقارون .
الاعتقاد القادري إذن حزمة مترابطة من الأفكار الدينية والسياسية غايتها توطيد دعائم السلطة , والعصف بمعارضيها أيا كانت انتماءاتهم أو مشاربهم , جنبا إلي جنب ترويع البسطاء ممن لا يعرفون الفروق بين الملل والنحل, ولا بين النصوص ومقاصدها , فيسلمون أدمغتهم لفقهاء وشيوخ السلطان دون تحفظ .
وبهذا ##الديكرتو## السلطوي أمست الشيعة والمعتزلة والفلاسفة مارقين بنظر الدولة, يحق لها قتلهم وتعذيبهم ونفيهم , وصار التهديد بتطبيق العقوبات علي المراوحين بين الطاعة والعصيان مألوفا , وأضحي واجبا أن تروع شيوخ السلطة العامة بتفاصيل ما ينتظرهم من عذاب جهنم إن راودهم الشك في هذا الاعتقاد القادري , ذلك الذي سوف يثني عليه فيما بعد كثر من الأئمة في مقدمتهم الحافظ الذهبي, وابن القيم الجوزي, وابن كثير, والسيوطي , وابن الصلاح .
ولك أن تتصور كيف مضت حياة الناس العلمية والثقافية بالتوازي مع حياتهم السياسية والاقتصادية لمائتي عام ونيف في ظل هذا الحال إلي أن سقط ذلك الديكرتو الرهيب بسقوط الخلافة العباسية ذاتها عام 1258 ميلادي.
فهل انتهي بذلك عصر الإرهاب الفكري ؟ كلا , وآية ذلك أن الأصولية ما لبثت حتي وجدت نصيرا لها في فكر الفقيه تقي الدين بن تيمية الدمشقي المتوفي عام 1328 ميلادي, وكان من أتباع الحنابلة المتأخرين, فشدد النكير علي الشيعة وعلماء الكلام والمتصوفة, وعارض ما أسماه ##البدع## في كل أمر من أمور الدين والدنيا, ودعا إلي الأخذ بمرجعية واحدة هي القرآن والسنة حسب.. دون التفات منه إلي المتغيرات الحياتية المطردة , والتي تتطلب الاجتهاد للموائمة بين محددات النص المفترض فيه ## الإطلاقية## , وبين أنسقة العلم ومناهج العمل , وجميعها إنسانية نسبية .
وقد ظل فكر ابن تيمية هذا قابعا كامنا لدي المريدين والأتباع إلي أن قــيـد له أن يجد جماعة سياسية تروج له, وسلطة تتبناه , وقد وقع ذلك بالتحالف بين محمد بن عبد الوهاب من شيوخ نجد, وبين زعيم من وسط الجزيرة العربية: محمد بن سعود (ت 1845 ميلادي) فكان أن ظهر التيار الوهابي, وظل قائما , رغم انكسار شوكته العسكرية أمام الجيش المصري بقيادة إبراهيم باشا ابن محمد علي الكبير.
كان لابد أن يمر قرن ونصف قرن من الزمان, قبل أن يجد التيار الوهابي فرصته للثأر (ثقافيا ) من المصريين. وقد وجدها في كارثة يونية1967 حيث ضربت مصر الأزمات السياسية والاقتصادية , ما اضطرها للاعتماد علي معونات دول الخليج لإعادة بناء قواتها المسلحة, وما اضطر فقراء شعبها للزحف بحثا عن العمل هناك- خاصة المملكة- تحت وطأة الحاجة الشديدة, فكان شرط قبولهم ثم بقائهم في أعمالهم أن يلتحفوا بثقافة الوهابيين البدوية المتزمتة, وأن يندمجوا معها إلي درجة التماهي. وحال عودة العائدين منهم إلي الوطن, لم يكن أمامهم من بديل للانسلاخ عن هذه الثقافة, لا سيما وأن الدولة المدنية في مصر كانت قد بدأت هي الأخري في التآكل لحساب أصولية داخلية, أفسح لها نظام ##السادات## المجال للظهور وللنمو , بغرض تصفية الناصريين وضرب اليساريين. وهكذا انفتحت النوافذ أمام رياح العنف المادي والفكري كي تقتلع ##السنبلة## المصرية من تربتها الطيبة, ولـتغرس بدلا منها ثقافة ##البلطة## التي تبحث عن رأس تشجه.
لكن ثقافة أخري كانت , ولا تزال تعمل في مصر علي تجاوز المحنة, ثقافة تؤمن بالإبداع, وتؤمن بأن مصر وإن قبعت في دهليز العالم العربي, إلا أنها مازالت تفتح قلبها وعقلها لثقافات العالم بأصولها وفروعها , وعليه فلا مندوحة أمامها من الأخذ بأسباب التحديث: علوما طبيعية وإنسانية, فلسفة وفنونا وآدابا, فضلا عن ضرورة سعيها للحاق بالموجة الثالثة _ بتعبير ألفن توفللر- التي هي بناء الاقتصاد علي معطيات المعرفة العلمية, وإدماج الإبداع الوطني في نسيج الثقافة العصرية, باعتباره رأس المال الرمزي للأمة ضمن المكون الاقتصادي للبلاد, بما يسمح له بإنتاج القيمة Value والقيمة المضافة Added Value.
بيد أن هذا الاتجاه الرامي لتحديث العقل المصري بمبادرات تستهدف التطبيق العملي لرؤية العصر, لم يكن مرضيا بالإطلاق للتيار الأصولي, بل علي العكس كان حافزا علي أن يتوحش إزاء كل من يبدي رأيا في مسألة- أية مسألة – حتي ولو لم تكن ركنا من أركان الدين الخمسة, أو حتي محل إجماع( الحجاب مثالا لا حصرا ) وبالمناسبة فإن الإجماع لم يعد حجة في أصول الفقه منذ رفضه الإمام ##الباقلاني## كمسلك للعلة(كتاب التمهيد), وأيده في ذلك ##الشوكاني## قائلا: إن المخالفين في القياس هم بعض الأمة فلا تتم دعوي الإجماع بدونهم (كتاب إرشاد الفحول إلي تحقيق علم الأصول).
لكن ثقافة الإرهاب الفكري الأصولي الوهابي لا يعنيها من ذلك كله إلا تجريح الإنجازات علمية كانت أو فكرية أو أدبية , بحسبانها بدعا مآلها النار! ولأن الإرهاب الفكري لا يملك الآليات ## التقنية ##القادرة علي مواجهة هذه الإنجازات علي أرض الفكر, فإنه يلجأ إلي الالتفاف حولها, والاندفاع إلي تصفية رموزها جسديا وسياسيا واجتماعيا : فرج فودة , نجيب محفوظ , نصر حامد أبو زيد, أحمد عبد المعطي حجازي , حلمي سالم …إلخ بدعوي أنهم أبدوا آراء مخالفة في قضايا أراد لها الإرهاب أن ترتدي مسوح الدين, بينما هي محض اجتماعية. والمثال علي هذا أن من عارضوا مطلب تعميم الحجاب لم يتجاوزوا حقهم المشروع في إبداء تخوفهم من استقطاب الشعب إلي معسكرين (عن طريق تعميم زي شبه رسمي للمسلمين دون الأقباط)إدراكا منهم أنه لو ارتدي كل جانب زيا خاصا به , لكان المصريون بذلك يدقون أول مسمار في نعش وحدتهم الوطنية , وساعتها تكون جذور الإرهاب الفكري قد أعطت ثمارها المرة , وحققت مراد القوي الشريرة الساعية لتقسيم البلاد .. وقي الله الكنانة شر المقادير