في ليلة من ليالي البرد القارس, والناس نيام, جئت إلينا يارب في صورة طفل رضيع في ركن مجهول من أركان الدنيا الواسعة الرحيبة وفي مذود للبقر من الناصرة, وهي أحقر بلد في أحقر إقليم من بلاد فلسطين وهي الجليل.
لم ينتبه لمجيئك أحد, ولا كان في استقبالك من البشر غير من تشرفت بحملك في أحشائها وحتي يوسف البار تروي التقاليد عنه أنه مضي ليحضر القابلة, فعاد ومعه القابلة, ولكن بعد أن خرجت ياربي من بطن العذراء كما دخلت العلية بعد ذلك بسنين وكانت أبوابها مغلقة لم تفتح ولم تمس, خرجت منها كما دخلت بقدرة لاهوتك.
إلا أنك يارب لا تحفل بالناس جئت مخفيا جلالك عن عيون الناس؟ ولكنك تحفل بالناس, ولا تحفل بهم فقط بل ومن أجل خلاصهم قد جئت فلماذا تخفيت يارب؟!
لقد عرفناك يارب علي كل حال, وعرفنا أنك من أجلنا قد افتقرت وأنت الغني لنستغني نحن بفقرك, ولبست الضعف وأنت القوي لترفع نفوس الضعفاء وتشفي شقاءهم.
لم تستقبلك طلقات المدافع المدوية كما تستقبل كل طفل ملكي, ولكن استقبلتك أبواق الملائكة النقية.
لم تضأ لك الثريات الكهربائية, ولكن أضاءت مقرك الصغير الكبير أنوار سمائية وأضواء روحانية بهية.
لا يا سيدي لست أنت بشرا, وإن دعوت نفسك ابن البشر ولم تكن في طبيعتك الأزلية إنسانا, وإن كنت قد اتخذت في ملء الزمان صورة الناس وطبيعة الناس.
وإلا فلماذا اهتزت السماء بميلادك وطاولت الأرض؟ صمت الناس وتكلمت الملائكة وأنشدت طغماتهم ألوفا وربوات المجد لله في الأعالي وعلي الأرض السلام؟
ولماذا وقف ملاك الرب بالرعاة, ومجد الله أشرق حولهم, فخافوا خوفا عظيما جدا؟!
ولماذا وصف الملاك الفرح بميلادك بأنه فرح عظيم لجميع الشعب؟
ولماذا قال إنه قد ولد لكم اليوم في مدينة داود (بيت لحم) مخلص هو المسيح الرب؟
إذن فلست يا إلهي مولودا طفلا كسائر المولودين, ولكنك الرب في صورة طفل وليد.
ولماذا جاء رئيس الملائكة يبشر العذراء البتول بميلادك منها, ويحييها بأجمل تحية عرفتها امرأة في تاريخ البشر مباركة أنت في النساء! ويصفك لها بأنك القدوس الذي يملك علي آل يعقوب إلي الأبد, ولا يكون لملكه انقضاء؟
وذلك أنك الأزلي الأبدي, والسرمدي الذي لا بداية له ولا نهاية!!
ألست أنت بعينك من رآه دانيال النبي قديما في صورة ابن بشر, ومع ذلك سلطانه أبدي لن يزول, وملكه لا ينقرض وتتعبد له كل الشعوب والأمم والألسنة؟!
ألست أنت بذاتك الذي تغني النبي ميخا بأزليته وأخذ يناجي القرية التي ولدت فيها ميلادك في الزمان وأنت يا بيت لحم أفراته, أنك صغيرة في ألوف يهوذا, ولكن منك يخرج لي من يكون متسلطا علي إسرائيل, ومخارجه منذ القديم منذ أيام الأزل؟!
ومن أين عرف المجوس بميلادك, وكيف عرفوا بقدرك وألوهتك حتي جاءوا ليسجدوا لك كإله, ويقدموا لك قرابينهم ذهبا ولبانا ومرا؟
إن زرادشت حكيمهم أنبأهم بأن في آخر الزمان بكرا تحبل بجنين. وأنتم يا أولادي أول من يعلم بمجيئه من شعوب الأرض. فإذا رأيتم نجمه, فامضوا إليه واسجدوا له, وقدموا هداياكم لئلا يصيبكم بلاء عظيم, فإنه الكلمة مقيم السماء.
وطبقا لنبوءة زرادشت رأي المجوس يا إلهي نجمك, ورأوا فيه صورة عذراء تحتضن وليدها, فمضوا والنجم يتقدمهم حتي بلغوا بيت لحم, ووقف النجم حيث كنت يارب, فدخلوا وسجدوا لعظمتك, وقدموا لجلالك هداياهم.
ألست أنت هو بعينك النبع الأزلي الأبدي الذي رآه الإمبراطور أوغسطس في رؤياه, وكأنه نقطة من الزيت نبعت من مصدر مجهول ثم كبرت فصارت نهرا فبحرا فمحيطا غطي الأرض كلها ثم السماء, وقد غرق فيه كل الكون, فاستيقظ الإمبراطور مذعورا وجمع من حوله العرافين والمنجمين يسألهم عن تفسير لحلمه, فأنبأوه بمولد إله عظيم يغطي ملكه ومجده السماء والأرض. ولما لم يعرف قيصر عن هذا الإله شيئا أمر بأن يقام مذبح في كل أنحاء الإمبراطورية الرومانية وأن يكتب عليه أنه لإله مجهول. وفعلا ذهب ماربولس أحد رسلك إلي أثينا ورأي بعينيه ذلك المذبح فصرخ في محفل أريوس باغوس وقال يا رجال أثينا.. بينما كنت أجتاز وأنظر إلي معبوداتكم وجدت أيضا مذبحا مكتوبا عليه لإله مجهول فهذا الذي تعبدونه وأنتم تجهلونه, به أنا أبشركم. أن هذا الإله الذي صنع العالم وجميع ما فيه إذ هو رب السماء والأرض.. يعطي للجميع حياة ونفسا وكل شئ.
ولم يكن هذا الإله المجهول لقيصر وللرومان واليونان غيرك أنت يارب يا من جئت إلينا متخفيا في صورة طفل رضيع.
فافرحي يا أرض لأن الذي نزل إليك من السماء وصار في شبه الناس, مازال كما هو في السماء. وطفل المذود هو بعينه الكلمة الذي خلق العالمين.