هذه هي الإسكندرية تلك المدينة التي تغني بها أحمد شوقي أمير الشعراء منذ ما يقرب من قرن – تلك المدينة التي كانت في عصرها الذهبي تحتل الصدارة في العالم والأدب والفن في العالم الهلينستي خلال ثلاثة قرون في عهد البطالمة, فكانت أوضح وأخصب نبع حضاري للحضارة الهيلينية ثم الرومانية سواء فيما يتصل بمكتبة الإسكندرية أو مدرستها وعلمائها الرواد في مجالات الدين واللاهوت, والفلك والرياضة والفيزياء والتكنولوجيا والطب والتشريح والزراعة, والجغرافيا والتاريخ, والفكر والفلسفة واللغة والأدب والنقد والفن التشكيلي, لذلك كانت الإسكندرية المصرية هي الإسكندرية الوحيدة التي ازدهرت واستطاعت أن تتحدي الزمن في حين اندثرت سبع عشرة مدينة أخري حملت نفس الاسم, سواء أسسها الإسكندر الأكبر في حياته أو أنها تأسست تخليدا لذكراه.
هكذا كانت الإسكندرية في عصرها الذهبي -واحدة من عواصم الحضارة المصرية مثلها في ذلك مثل طيبة وممفيس من قبل.. وقد احتضنت جميع الأديان والتيارات والمذاهب الفكرية المتعددة.. وهكذا أصبحت اليوم مدينة الدماء.. بل إنها كانت ولا تزال مدينة للشهداء فكما شهدت شوارع الإسكندرية سحق القديس مرقس الرسول حتي الاستشهاد علي يد الرومان ليلة عيد القيامة عام 68م, ها هو التاريخ يعيد نفسه بعد ما يقرب من قرنين من الزمان, وتخضبت الإسكندرية بالدماء من جديد ليلة أول أيام العام الجديد 2011 علي أيدي مجموعة من الآثمة قاموا بتفجير أمام كنيسة القديسين مرقس الرسول والقديس بطرس خاتم الشهداء, تناثرت معه دماء وأشلاء وتنهدات المصريين الأقباط..
والسؤال: لماذا هذا الفرق بين الأمس واليوم؟
والإجابة تكمن في كلمة واحدة :العقل, ففكر الشخصية المصرية -في أغلبه- تحول من الإبداع والخطاب الديني والثقافي الراقي المتحضر, إلي فكر آخر مغاير حيث تهمشت الثقافة وتهمش العقل لتنمو تيارات جديدة معادية لكل ما هو إنساني وبديع وهدامة للفكر البناء والمستنير.
وقد أصدر الدكتور طه حسين عام 1938 كتابه مستقبل الثقافة في مصر والذي يعد أحد أهم الوثائق والدراسات الفكرية في القرن العشرين فكتب يقول: الثقافة والعلم أساس الحضارة والاستقلال, وهنا نجد الاستقلال السياسي والحرية بداية بناء جديد لمصر الحديثة, ولم يتحقق التقدم الحقيقي بالحرية والاستقلال وحدهما.. كتب طه حسين يقول: تضيف إليهما الحضارة التي تقوم علي الثقافة والعلم, القوة التي تنشأ عن الثقافة والعلم, الثروة التي تنتجها الثقافة والعلم, ولولا أن مصر قصرت طائقة أو كارهة في ذات الثقافة والعلم لما فقدت حريتها ولما أضاعت استقلالها.
وهنا نتساءل: ما مفهوم الثقافة الذي يتناوله عميد الأدب العربي؟ إنه مفهوم يتجاوز عنده المعرفة المحددة, والثقافة ليست محصورة في المدارس والمعاهد, بل مفهوم الثقافة يتسع ليتضمن العلم والفلسفة والأدب والفن والسلوك إلي جانب التعليم ومؤسساته.
إذن: الثقافة هي حجر الزاوية الذي يعد بدوره سلاحا ذا حدين.. إما أن تستند إليه الأمم في صنع حضارتها فيأتي البناء سليما راسخا إذا كانت الثقافة راقية هادفة, وإما أنه يسحق كل القيم والمعاني النبيلة إذا ما انحدرت الثقافة بكل دروبها وغاب العقل بفعل ثقافات هدامة مستنكرة.
وها نحن اليوم ندفع ثمنا فادحا لتهميش العقل.. فما رؤية مفكري هذا العصر لإعادة بناء عقل الشخصية المصرية؟.. سؤال سيطرح -في اعتقادي – زمنا طويلا..