التعصب كما أنه منتج لعمليات متنوعة كالعنف والإرهاب والتكفير فإنه ينبع من مصادر متنوعة مباشرة وغير مباشرة,اقتصادية واجتماعية ونفسية,فكرية وسياسية وثقافية,وكما أن أبسط نماذج التسامح تنبع من الإيمان بأن رأيي صواب يحتمل الخطأ ورأي غيري خطأ يحتمل الصواب بما ينتجه هذا النموذج من تهيئة العقل للقدرة علي الحوار,فإن أبسط نماذج التعصب تنبع من الإيمان بأن رأيي صواب مطلق ورأي غيري خطأ مطلق.ومن هذا النموذج البسيط يمكن القول إن التسامح ينبع من قدرة العقل علي التفكير في النسبي بما هو نسبي,وأن التعصب كنقيض للتسامح ينتجه من يتصورون أنهم ملاك للحقيقة المطلقة,أي أنه ينبع من أصحاب الفكر التعصبي السياسي والثقافي والديني وبعيدا عن الاتجاهات التعصبية المرضية النابعة من أصحاب الأمراض العقلية والنفسية,تلك التي تتحدث عنها كتب ومراجع وتقارير الطب,فإننا نبحث هنا عن المصادر الفكرية للتعصب لنتعرف علي منطقها وأدواتها الرافضة للتسامح والرافضة للتنوع وللآخر الفكري.
نستطيع التحدث عن عدة مصادر فكرية هي التعصب الأيديولوجي والتعصب السياسي والتعصب الثقافي والتعصب الديني,وتتسم كل هذه الأنواع بسمات مشتركة,أهمها تصور امتلاك الحقيقة المطلقة وغياب الرغبة في الحوار,بل غياب القدرة علي الحوار وتوليد العنف بدرجاته المختلفة المعنوية أو المادية عن طريق تنمية النزعات الاستبعادية والاقتصادية والاستئصالية ورفض الآخر المختلف,وعدم القدرة علي التعايش مع التنوع والتعددية.
التعصب الأيديولوجي
يندر أن يعيش إنسان أو جماعة بدون أيديولوجية,كمنظومة فكرية وقيمية تتحدد عبرها الرسالة الأساسية والأهداف العامة,التي تعبر عن مصالح الفرد أو الجماعة وتحافظ علي تماسكها واستمرارها,لكن الذي يحدث أن تتجه جماعة إلي تحويل أيديولوجيتها إلي نسق مغلق,إلي فكرة مطلقة,إلي بنية فكرية نهائية,كلية الصحة,أو ممتلكة وحدها للحقيقة النهائية,فتصبح هذه المنظومة الفكرية هي نهاية التاريخ,أو نهاية الأيديولوجيا,أو نهاية الفكر,أو الفكرة النهائية,فإذا كان ذلك كذلك فلا تسامح ولا حوار,بل تعصب لما أملكه من فكر نهائي صحيح,وحيد,لا يحتمل الخطأ.
التعصب السياسي
وتنبع من الأيديولوجيات والمنظومات الفكرية العامة تيارات سياسية ومواقف سياسية عملية,والإنسان كائن سياسي لا يكف عن اتخاذ مواقف سياسية تجاه الأحداث الجارية,ويتصور البعض أنه لا علاقة له بالسياسة بالمعني العملي المباشر,لكن الموقف السياسي قد يكون بالسلبية وعدم اتخاذ موقف,أي أنك حين لا تتخذ موقفا سياسيا تتخذ موقفا دون أن تدري,وكل موقف سياسي هو رأي يتسم بالنسبية والتغير,لكنه حين يتحول إلي الموقف الوحيد الصحيح النهائي,يتحول من النسبي إلي المطلق,من الصحيح الذي يحتمل الخطأ إلي الصحيح بشكل مطلق,أي يتحول إلي موقف سياسي متعصب,إلي تعصب سياسي,وينتقل من إمكانية الحوار والقابلية للتصحيح والنقد,إلي رافض لأي رأي آخر أو موقف آخر يختلف معه أو يخالفه,وفي كل من التعصب الأيديولوجي والتعصب السياسي من يخالفني في الرأي ليس مجرد صاحب رأي خاطئ,أو صاحب فكرة نسبية تحتمل الخطأ والصواب,بل خارج علي الثوابت,ومخالف للاتجاه العام,وخارج عن الإجماع,وعدو خائن,ولا حوار مع عدو.
التعصب الثقافي
ويكمن خلف كل موقف أو سلوك يتخذه فرد أو جماعة تصور ثقافي مباشر أو غير مباشر,موروث أو مكتسب,فلا يمكن تصور العالم أو المجتمع القومي أو المحلي بدون أنماط ثقافية متعددة,فنجد مجتمعات تقبل بأشياء لا تقبلها مجتمعات أخري.وترفض أشياء لا ترفضها مجتمعات أخري,نفس الأمر نجده في مجتمعنا المصري,فما يمكن أن يقبله أهل بحري قد لا يقبله نفس المصريين من الصعيد,وما يقبله مواطن في أمريكا أو أوروبا أو الصين أو اليابان أو الهند قد لا يقبله مواطن من منطقة الشرق الأوسط,وانطلاقا من هذه الحقيقة-وهي نسبية-تنبع تصورات ثقافية إطلاقية,مثل صراع الحضارات,بتحويل هذه الأنماط الثقافية إلي أنماط ثابتة ونهائية وغير متغيرة,تترتب عليها مواقف ثقافية تتسم بالتعصب العنصري أو القومي أو الحضاري أو الجهوي أو الطائفي,هذا التعصب الثقافي علي مستوي العالم يصنع أنماطا من الاستعلاء الثقافي بين الأمم,والاستعلاء القومي بين الشعوب والدول,منتجا الثقافات الرافضة للحوار والثقافات الرافضة للتنوع,وينتج هذا التعصب الثقافي في المجتمع العالمي العنف في صورة الحروب,وفي المجتمعات المحلية ينتج نزعات التعصب الثقافي بين الطوائف وينتج العنف في صورة الحروب الأهلية والحروب الطائفية.
التعصب الديني
أما التعصب الديني فهو أخطر أشكال التعصب,لأنه يخفي نزعات التعصب الأيديولوجي والتعصب السياسي والتعصب الثقافي خلف الدين,خلف خطابات تتذرع بحماية الدين والحفاظ علي الدين,منتجا أوضاع السيطرة الدينية لرجال الدين أو من يتصورون أنفسهم حماة الدين أو عليهم أن يحكموا باسم الدين,أو لأنهم ظل الله علي الأرض ومن واجبهم السيطرة علي كل من المجتمع والدولة.وبصفة خاصة علي السلطة السياسية وتحويلها إلي سلطة دينية,والتعصب الديني حين يتحول إلي قوة منظمة أو يتحول إلي سلطة سياسية ينتج الحروب الدينية أو الحروب السياسية أو الأهلية والطائفية باسم الدين.
الأمين العام المساعد لحزب التجمع لإعداد القيادات