عودة إلي مارس 1983, قبل 27 سنة. نحن في أحد مكاتب مؤسسة البحوث السياسية, التابعة لجامعة السوربون الواقعة في قلب باريس. الحدث مهم بالنسبة لي: ها أنذا, بعد جهد ودراسة, أستعد لمناقشة أطروحة دكتوراة تحت إشراف أستاذي, أوليفيه كاري.الموضوع هو الحركات الإسلامية اللبنانية المعاصرة. رئيس لجنة مناقشة الدكتوراه هو محمد أركون, وإلي جانبه أستاذي, فضلا عن عضو آخر, أستاذ فرنسي آخر, نسيت اسمه. صديقي شربل يحضر المناقشة, دعما كما يقول. المناقشة تطول ساعات, ومحمد أركون هو المحرك لمجرياتها. هو صاحب سطوة علي الأستاذين الفرنسيين, وقوله هو الذي يجر الأقوال, من غير مراجعة ولا مساءلة. وأستاذي, أوليفييه كاري, المتواضع أصلا, يزداد تواضعا أمامه.
منذ طلته الأولي, أقول لنفسي أن محمد أركون يشبه الملك الشمس, العاهل الفرنسي لويس الرابع عشر الذي لم يتخيل من غير هالة حول وجهه. أركون مثله, رافع الرأس, وشيب شعره الكثيف كالنور الذي كان يتوسله الملك الفرنسي. يجلس علي المقعد أمامي, وبقية الأساتذة إلي جانبه, كأنه هو المحور; محوري بألفاظه ونظراته وتوتر جسده المنتصب. خال من الشك أو التساؤل أو التردد, ممعن في تقدير كلماته التي يطلقها كالرصاص الحي. قاس في تعابيره العلمية, كأنه مستنكر أمرا, لا أفهمه لحظتها. يأخذ علي أطروحتي أمورا لا تأتي علي بالي, مثل عدم تطرقها إلي كتبه, إلي التوحيدي والمعري, أو إلي ريجيس بلاشير وفردينان دي سوسير, لا أري أنها علي تماس مع الموضوع. مع أن البعض منها كان قد مر علي من غير أن أشعر بأنه قد يضيف شيئا علي أطروحتي, اللهم الخلفية الثقافية العامة… خصوصا أن بحثي ميداني, يدور حول جماعات لم تمت, ما زالت قائمة وعاملة… لكنه يتابع ويستفيض بعرض نتاج معرفته هو, واستنكاره, الشديد غالبا, لعدم ورود ذكره في أطروحتي.
إنه صاحب هيبة وسطوة لا ألمس مبرراتها في لحظتها, فأنا لم أسمع به من قبل, ولا بإنتاجه البحثي. وجهلي به وبموقعه الجامعي الحصين يعطيني شجاعة فائقة للرد عليه, نقطة نقطة, فاصلة فاصلة. كأنني في معركة لا أحسب نتائجها, أستجمع خلالها كل طاقات الحرب التي أشعلها هو. أخرج بانطباع من هذه المناقشة بأنني كنت أمام سلطة عليا لم أقدر حجمها, سلطة راسخة قديمة; وكان ذلك من حسن حظي…
وعندما يدعوني إلي مكتبه بعيد الانتهاء من المناقشة ونيل الشهادة الدكتوراه, يهمس لي شيئا سريعا, بأن هذه الدعوة إنما هي شرف عظيم لي. فلا أتأخر عن الحضور. وهناك, في مكتبه, تتغير سحنته ولهجته عما كانتا عليه وقت مناقشة الدكتوراه. أغرب ما ينضح عنه معاملته لي كما لو أنني موضوع اكزوتيكي: شرقية! عربية!, يندهش. تكتبين العربية وتتكلمين بها؟… حظك كبير. ويتابع: هل تودين متابعة دكتوراه الدولة معي؟ (في النظام الجامعي الفرنسي القديم, هناك درجتان للدكتوراة: الأولي حلقة ثالثة, التي نلتها, والثانية دكتوراه دولة المعروضة علي). يقترح ويضيف الصفات البحثية التي, برأيه, أتمتع بها, والتي لا أصدق منها حرفا… ولكنني أقبل وأعود إلي بيروت محملة بالكتب التي أصدرها آنذاك. لم أعد أذكر عناوين هذه الكتب, ولا عددها, اثنان أو ثلاثة, من الحجم الثقيل. أنكب علي قراءتها بفضول وشغف. فمشروع دكتوراه الدولة مع أستاذ بهذه المهابة قد يفتح لي آفاق تفكير جديدة, أدوات تفكير جديدة, أشعر بالحاجة إليها بعد نيل الدكتوراة. ظروف أمنية خاصة تحول دون متابعتي لمشروع دكتوراة الدولة; أو ربما أتذرع بهذه الظروف لكي لا أكمل… الآن أعي ذلك.
قرأت هذه الكتب بلغتها الأم, أي الفرنسية, وكانت عسيرة, معقدة, مبهمة, ربما يحتاج قارئها إلي قراءة مراجعها قبل بلوغها; أو إلي عقول تتمتع بذكاء خاص, أو خلفية ثقافية معينة, لست من أصحابهما. وأتساءل اليوم, وبعدما نشرت ترجمات هذه الكتب إلي العربية, كم تكون قراءتها أقل يسرا, وبعثا علي الشقاء الذهني… المهم أنني قمت بما علي ولم أفهم إلا بضعة أشياء , بقي منها القليل وأري اليوم بأنها لم تكن تحتاج إلي كل هذا العناء, ولا هذا الجفاء ولا هذا الضجر.
علي رأس هذه الافكار, إننا نحن المسلمين, نعيش اليوم الأزمة نفسها التي شهدتها المسيحية الغربية في القرون الوسطي قبل الثورات الدينية والعلمية والسياسية التي أسست للحداثة; أو أنه علينا البحث عن العوامل التي تعوق المواءمة بين الإسلام والحداثة; أو أن العالم الإسلامي يحتاج إلي رفع الحجاب عن المسكوت عنه… وهذا الاخير, أي المسكوت عنه, كان أكثر ما ساعد علي ذيوع صيته بين قرائه والمعجبين به من المسلمين العرب والمتابعين لشئونهم.
لست هنا بصدد عرض كل الافكار الأركونية. أكتفي هنا بهذه الثلاث للقول أن كلا منها تحتاج إلي نقاش بعينه, فيما يعتبرها صاحبها, مع غيرها من المقولات التي اعتمدها أو اخترعها, مفتاح مشروعه الفكري, أو قل الحل الذي يقترحه علي أمتنا بغية إخراجها من براثن التخلف والجهل والأصولية.. إلخ.
محمد أركون, بصفته صاحب مشروع ناجز وعسير لـحل معضلاتنا الفكرية, أستاذ الإسلاميات التطبيقية في جامعة السوربون الفرنسية العريقة والمهيبة, والمناضل المقدام في سبيل تطورنا وانعتاقنا من الظلامية والتعسف, صاحب الشخصية العنيدة الصلبة المتمسكة بما كتبت حتي الرمق الأخير…. كان عمره 57 سنة عندما التقيته. وقبل هذا اللقاء كانت قد مرت عليه سنوات من الاعتراف والتكريس. وعشية رحيله بسنوات, تحول, مثل غيره من المسلمين أو العرب المكرسين في الجامعات الغربية, والمعترف بهم بالتالي في أوساطنا الفكرية والثقافية, إلي نجم من نجومنا الفكريين… إلي زعيم لـثورة فكرية في تاريخ الإسلام, بحسب أنصاره. ثورة دعمتها قناة الجزيرة بإطلالاته المنتظمة علي شاشتها. لم أتابع هذه الإطلالات, ولكنني أتصور أنها فرخت مزيدا من الأنصار, هم نخبة العقلانية والعلمانية العربية; وغالبيتهم أشد تعصبا ويقينية وحبا لأفكارهم من الإسلاميين المتشددين, فيما الثورة لم تتحق إلا في رغباتهم وأحلامهم الصعبة.
ثورة خلقت لدي ردة فعل أكاديمية قوية: فطوال تدريسي لطلابي في صفوف الإجازة (ما يساوي مرتبة الماجيستير إلا قليلا), لم أتوقف ثانية عن التشديد علي الجانب التطبيقي, الميداني, لأطروحاتهم. أقول لهم: لا حاجة إلي الشق النظري في الأطروحة, الذي هو في أفضل الأحوال مجرد ذكر ببغائي لنظريات ومفاهيم تمت بصلة للأطروحة. فهذه الاخيرة, أي النظريات والمفاهيم, تكون مفيدة فقط حين تقرأ وتفهم وتستوعب, وإذا كان تطبيق بعضها موائما لموضوع الأطروحة وإشكالياتها. غير ذلك مجرد حشو, غرضه تطويل الصفحات تحت وهم الطالب المتمكن نظريا, أو أن الأطروحات الكبيرة الحجم هي التي تستحق العلامات الأعلي.
بتنظيراته الغائمة, علمني محمد أركون الحرص الشديد علي علاقة المطابقة أو المواءمة أو التوليد أو الاستنتاج أو الاستقراء بين النظريات والمفاهيم, أي ما هو مجرد, من جهة, وبين الواقع الميداني الملموس, من جهة أخري. أما كبرياؤه وامتلاؤه بنفسه فقد علماني التمييز بين التواضع والتواضع العلمي. الحلول التي أدركتها ثورته الفكرية الشاملة بقيت ضمن الأدراج بالرغم من الجاذبية التي اكتسبها بفضل التليفزيون. وأشك أن تكون بعض الأقلام المادحة التي رثته قد تجشمت عناء قراءة كتبه وهي تقارنه بابن رشد وتصفه بـفارس الفكر العقلاني والعلماني.
ليس الخلاف مع أركون خلافا فكريا, وإن كنت أجد في الطروحات التي فهمتها من إنتاجه شيئا من القدم والتكرار الحداثي العربي الذي نعرفه منذ أيام النهضة. بل الخلاف علي التزعم , علي الزعامة, وسلاحها الجهاز الفكري… الذي يهيئ لصاحبه أنه صاحب سلطة فكرية لا حياد عنها. مثله في ذلك مثل زعماء السياسة المباشرة الذين لا يحاسبون, والذين لا يعرفون غير ما يراد إبلاغهم به وهم فوق, خارج الميدان, خارج الحياة الحقيقية, خارج التاريخ الاجتماعي الحي.
ملاحظة أخيرة: بعد مغامرتي الأركونية القصيرة الفاشلة, وقعت علي كتاب العراقي معروف الرصافي كتاب الشخصية المحمدية, وقد ألفه صاحبه عام 1933, في قرية الفلوجة التي عرفنا الكثير عن بساطتها بعد الغزو الأميركي للعراق. كان كتابا مفاجأة: من غير تنظير, ولا تباه, ولا موقع جامعي, ولا غرب, قرأت فيه عن الدعوة الإسلامية ومحطاتها ورمزياتها الأساسية; ما ساعدني علي المزيد من البلورة والتأمل حول معني الدعوة الإسلامية في التاريخ وسياق انتصاراتها المذهلة. فقد فهمت الكتاب… نعم فهمته. شخصيا, أفضل الكتاب غير المعترف بهم: إنهم شكاكون بأنفسهم وبقدراتهم, يبذلون الخيال والإدراك والمعرفة من دون هوادة, ويبلغون بها المزيد من الحيرة والتساؤلات. ومعروف الرصافي, الصعلوك, خريج مدرسة الفلوجة القاسية والزاهدة, هو أفضل من يعرف بهذه الصفات الحميدة. رحم الله الرجلين المجتهدين, معروف الرصافي ومحمد أركون.