أصدر المجلس القومي لحقوق الإنسان بمصر وثيقة في يناير سنة 2008 علي اعتبار عام 2008 عاما للمواطنة. وأهاب المجلس بمجلسي الشعب والشوري بالنظر في التوصيات والأخذ بها والعمل علي تفعيلها. وإذا نظرنا للحال المصري حاليا نجد أن مؤسسات المجتمع أصبحت جذرا مفككة تحاصرها المرجعيات الدينية والأحزاب التي تتوهم أنها تملك الحقيقة المطلقة. وأصبحت الشخصية المصرية مشحونة بالأصولية والتزمت حتي النخاع , وذلك بسبب إقحام الدين في كل نواحي حياتنا , ومنها الأفكار الأصولية التي أصابت العقل المصري بالعقم الفكري.
حينما نريد الإصلاح الاجتماعي والمساواة أمام القانون نحتاج إلي التعديلات الدستورية والقانونية والتشريعية والتنفيذية , لنقل الفكر المصري من سياسة المطلق إلي التعددية. والتعديلات التي ترسخ العلمانية الدينية هي الحل, فهي ضد الأصولية والتطرف وليست ضد الدين. إن تعاليم التطور بدأت بالفيلسوف الإسلامي الأندلسي ابن رشد في سنة 590 هجرية ”فطالب بضرورة معرفة المنطق والحكمة , والفلسفة هي صاحبة الشريعة , والبدء في التعليم لأنه السبيل لكي يرتقي الإنسان من المحسوس إلي المعقول , وأضاف أنه لابد من التوفيق بين السلطتين الروحية والزمنية حتي يتحقق أنه لا إكراه في الدين”. كما أكد مصطفي النحاس باشا للملك فاروق ”من الخطأ لإقحام الدين فيما ليس من شئونه, وإيجاد سلطة خاصة للدين بجانب السلطة المدنية , لأن الإسلام لا يعرف سلطة روحية وليس بعد الرسل وساطة بين الله وعباده”.
الدستور المصري يحتوي علي مواد مضادة للعلمانية. وقد تم وضعها في ظروف دولية عام 1971 حين كانت الشيوعية تجتاح العالم , ولذلك استخدم الدين لمحاربة الشيوعية حينذاك, ولكن الظروف الدولية الحالية اختلفت عن تلك التي دعت لوضع الدين في الدستور. وقد أدي وضع الدين والشريعة الإسلامية كمصدر رئيسي للتشريع إلي بعض الاستخدامات الخطأ عند الأصولين ذوي المعتقدات المتشددة والفقهاء ذوي الآراء المتعصبة , مما أدي إلي رفض المحكمة الدستورية العليا بعض الأحكام التي اعتمدت علي الفقه والرأي والتزمت بإقرار الأحكام التي لها خلفية في القرآن والسنة وليس بالمذهب والفقه.
ظهرت المادة 2 من الدستور والتي تنص علي أن ”الإسلام دين الدولة واللغة العربية لغتها الرسمية ومباديء الشريعة الإسلامية المصدر الرئيسي للتشريع” , من المادة 149 من دستور سنة 1923 والذي نص أن ”دين الدولة الرسمي الإسلام”. وقد وافقت لجنة صياغة دستور سنة 1923 بالإجماع علي هذا النص وكان اللجنة تضم 20% من أعضائها من المسيحيين, وهو تقرير لأمر واقع , وظل هذا الحكم الدستوري مرعيا في كل دستور صدر في مصر خلال القرن العشرين إلا دستور سنة 1958 , وجاء دستور سنة 1971 ليزيد من نص دستور سنة 1923 إلي النص الحالي.
نص المادة 2 من الدستور تعطيه صبغة دينية ويشكل مرجعية إسلامية لكل المباديء الواردة بالدستور ويحدد الأحكام والقانون بالشرع الإسلامي, وبذلك يكون دين الدولة هو مرجعيتها. وقد كان المشرع حينذاك مقتنعا بأن إسلامية الدولة يحقق المساواة بين المسلمين وغيرهم من أهل الكتاب استنادا إلي الفقه الإسلامي بأن لهم ما للمسلمين وعليهم ما عليهم.
إن الصبغة الدينية للدستور أعطت المغالين في أمور الفقه والمتشددين في تفسير النصوص الدينية حسب مذاهبهم, وأثر ذلك في بعض الأحكام وتصرفات البعض من القادة والقضاة وأولي الأمر خلال الخمسة عقود الماضية بعد ثورة سنة 1952 , وأظهرت هذه التصرفات الفردية بعض الخلل في معايير حقوق الإنسان , وأفردت هذه الممارسات من بعض المغالين ذوي العقيدة المتشددة إلي ظهور تمييز بين المواطنين من حيث الدين والطبقة والفكر والانتماء السياسي.
أراد المشرع أن يحتوي بعض الممارسات الخاطئة التي تعتمد علي البند الثاني من الدستور , فاستحدث في المادة الأولي من دستور مارس سنة 2007 ”جمهورية مصر العربية دولة نظامها ديموقراطي يقوم علي أساس المواطنة” , أي أن المواطنة هي الأساس. وفي المادة 5 ”ولا تجوز مباشرة أي نشاط سياسي أو قيام أحزاب سياسية علي أية مرجعية دينية أو أساس ديني , أو بناء علي التفرقة بسبب الجنس أو الأصل”. وهذان البندان تأكيدا أن الدولة مدنية علمانية بالإضافة إلي المواد السابقة في الدستور , المادة 8 ”تكفل الدولة تكافؤ الفرص لجميع المواطنين” , والمادة 40 ”المواطنون لدي القانون سواء وهم متساوون في الحقوق والواجبات العامة ولا تمييز بينهم بسبب الجنس أو الأصل أو اللغة أو الدين أو العقيدة” والمادة 46 ”تكفل الدولة حرية العقيدة وحرية ممارسة الشعائر الدينية”.
كان من المنتظر بعد التعديل الدستوري في مارس سنة 2007 , أن تلحق مجموعة قوانين وتشريعات لإرساء وتفعيل المواطنة علي أرض الواقع وتحويله لبرنامج عمل قومي وواقع يلمسه المواطنون جميعا بلا تمييز لتحقيق العدالة الكاملة للشعب , ونقل شعار إعلان المواطنة إلي إعلان المواطنة العملية.
كيف نصل إلي تفعيل المواطنة العملي:
أولا: نحتاج إلي تثقيف الشعب بأكمله بقواعد المواطنة وقبول الآخر, بعد عقود من الأفكار الأصولية المتشددة التي أصابت العقل المصري بالعقم الفكري , والتثقيف يشمل الطفولة والشباب بمراجعة المناهج الدراسية , وعلي الأخص التعليم, وتحديث الإعلام المرئي والمسموع والمكتوب والنشر والمحاضرات, وتجديد الخطاب الديني.
إن ثقافة المواطنة ضرورية لاحتواء الاحتقان الشعبي للآخر , والنفوس المشحونة , والهوس الديني, فالمواطنة تبدأ بأفراد الشعب والشارع قبل تفعيل القوانين.
ثانيا: تفعيل المواد الدستورية الأولي والخامسة والثامنة والأربعين والسادسة والأربعين من خلال المؤسسات التشريعية والتنفيذية والقضائية لتأكيد مبدأ المواطنة الكاملة وتجريم الخروج عنها.
ثالثا: أتقدم بأجندة لمشروع قانون الحرية الدينية:
1- تجريم ازدراء الأديان السماوية وكتبها , وعدم السماح لرجال الدين والفكر التعرض السلبي لأي دين.ووضع عقوبة جنائية لمن تسول نفسه مهاجمة الآخر, ومصادرة أي كتاب يهاجم الدين الآخر.
2- تنقيه وإلغاء مواد القضاء والتشريع والقرارات التنفيذية التي تعوق حقوق المواطنة وحرية الإيمان والمعتقد وحرية ممارسة الشعائر الدينية.
3- إصدار تشريع جنائي جديد لمعاقبة من يهاجم ويحطم دور عبادة أو أية مؤسسة دينية أيا كانت, وتقديم المتسببين في الحوادث الطائفية أو القائمين بها للنيابة العامة والمحاكمة , دون اللجوء للمجالس العرفية التي ثبت عدم كفاءتها في وقف هذه الأعمال العدوانية الهمجية ضد الغير.
4- إقرار قانون بناء دور العبادة الموحد بدون أي معوقات أمنية أو محلية أو تنفيذية لتفعيل مبدأ حرية ممارسة الشعائر الدينية بالمادة 46 من الدستور. والالتزام بالقانون المدني للبناء مع إضافة طلب من رئيس الطائفة المتقدمة لبناء الدور مثل الأزهر الشريف وبطريرك أو أسقف الأقباط الأرثوذكس أو بطريرك أو رئيس أية طائفة مسجلة في مصر. ولابد أن تحظي كل دور العبادة بالرعاية الاقتصادية من جانب الدولة, حيث إن المواطنين سواء من دافعي الضرائب. وإلغاء الخط الهمايوني صراحة وإلغاء قرار شروط بناء الكنائس الصادر في فبراير 1934 عن العزبي باشا وكيل وزارة الداخلية وكل القرارات والتشريعات والقواعد المترتبة عليه. وتلغي كل الإجراءات المتعسفة الحالية في أمر بناء الكنائس.
5- تنقية مواد التعليم العام والفني والأزهري والجامعي والبحثي من مواد التشدد الديني والتكفير وعدم قبول الآخر , والسماح لغير المسلمين بتدريس اللغة العربية, والسماح لغير المسلمين بالالتحاق بالمعاهد والجامعات الأزهرية في المجالات العلمية والأدبية دون مجالات الدين والشريعة إحقاقا للعدالة بين الجميع.
6- تجريم التمييز بين المواطنين في الوظائف العامة والحكومية بسبب الدين أو العقيدة أو اللغة أو اللون أو الجنس أو الخلفية الاجتماعية , مع وضع نظم لشغل فرص العمل بناء علي شروط موضوعية لا تحكمها إلا المؤهلات والإمكانات الخلقية المطلوبة.
7- إلغاء وتعديل القوانين التي لا تحترم العقيدة والتقليد المسيحي مثل زواج المرأة المسيحية من المسلم , وحرمانها من الميراث عند موت زوجها المسلم , توحيد نصيب الذكر والأنثي في الميراث , إبقاء الأطفال والشباب علي دين ولادتهم حتي سن الرشد 21 عاما, عند تغيير أحد الآباء أو كليهما دينهم الأصلي, وتكون الحضانة لمن بقي علي دينه أو لأقرب العصب. دعم حرية الاعتقاد وحرية الدين للعائدين لديانتهم.
8- إلغاء خانة الديانة من كل الأوراق الرسمية والبطاقة القومية. عدا أوراق الولادة والزواج والوفاة.
9- عدم تجريم حرية اختيار الدين انطلاقا من مبدأ حرية العقيدة والدين, وإلغاء القوانين والتشريعات التي تعوق العائدين إلي دينهم.
10- وضع أحكام جنائية لخطف البنات القاصرات دون سن الرشد , 21 عاما , وأسلمة القاصرات قسرا وغواية , وتحريم الزواج بالقاصر دون موافقة الوالد الحي أو العصب الوكيل.
11- تفعيل التعديل في المادة 62 بخصوص الإجازة بأخذ نظام القوائم الحزبية في الانتخابات العامة لضمان وصول المسيحيين إلي عضوية المجالس المحلية والشعبية والنقابات والشوري والشعب لإرساء مبدأ المشاركة السياسية للجميع.
12- إقرار قانون الأحوال الشخصية لغير المسلمين المقدم من قداسة الأنبا شنودة الثالث بابا الإسكندرية والمتفق عليه ما بين كل الطوائف المسيحية في مصر والذي تقدم به لوزير العدل عدة مرات خلال العشر سنوات الماضية.
إن تفعيل المواطنة يعد إرساء للديموقراطية وأركانها وأهمها الليبرالية , والعلمانية غير المتعارضة مع الدين, والتنوير والعقد الاجتماعي , لمحاربة الأصولية الجامدة والتكفير وقهر غياب العقل الناقد.
——
دكتوراه الطب الباطني (القاهرة)
ماستر بكلية الأطباء الأمريكية
عضو اللجنة العليا لكنائس المعادي