تم الكشف عن الصليب المجيد بمعرفة الملكة القديسة هيلانة أم الإمبراطور قسطنطين, وكان ذلك في عام 326 لميلاد المسيح, ويوافق سنة 42 للشهداء الأطهار.
اشتاقت الملكة هيلانة (247- 327)م إلي أن تعرف مصير الصليب المقدس الذي صلب عليه المسيح له المجد. وقيل إنها رأت في منامها حلما أنبأها بأنها هي التي ستكشف عن الصليب, وقد شجعها ابنها الإمبراطور قسطنطين علي رحلتها إلي الأراضي المقدسة, وأرسل معها قوة من الجند قوامها ثلاثة آلاف جندي ليكونوا في خدمتها وتحت طلبها, وهناك في أورشليم اجتمعت بالقديس مكاريوس أسقف المدينة البالغ من العمر ثمانين عاما, وأبدت له وللشعب رغبتها, فأرشدوها إلي رجل طاعن في السن من أشراف اليهود ويسمي يهوذا, وكان خبيرا بالتاريخ والأحداث والأشخاص, وبالأماكن. فاستحضرته الملكة وسألته عن صليب المسيح, فأنكر في مبدأ الأمر معرفته به وبمكانه. فلما شددت عليه الطلب وهددته وتوعدته إن لم يكاشفها بالحقيقة فاضطر إلي أن يرشدها إلي الموضع الحقيقي للصليب, وهو كوم الجلجلة, وهو بعينه المكان الذي تقوم عليه الآن كنيسة القيامة بالقدس القديمة.
أمرت الملكة هيلانة للحال بإزالة التل, فانكشفت المغارة, وعثروا فيها علي ثلاثة صلبان وكان لابد لهم أ يتوقعوا أن تكون هذه الصلبان الثلاثة هي صليب المسيح يسوع وصليب اللص الذي صلب عن يمينه ثم صليب اللص الذي صلب عن يساره, وقد عثروا كذلك علي المسامير وعلي بعض أدوات الصلب, كما عثروا علي اللوحة التي كانت موضوعة فوق صليب المخلص, مكتوبا عليها (يسوع الناصري ملك اليهود), ويبدو أن هذه الصلبان الثلاثة كانت في حجم واحد وشكل واحد أو متشابهة حتي إن الملكة ومن معها عجزوا عن التعرف علي صليب المسيح يسوع من بينها.
وروي المؤرخ زوسيموس Zosimus وكذلك المؤرخ روفينوس Rufinus في كتابه تاريخ الكنيسة 10: 7- 8 أن الملكة استطاعت بمشورة الأسقف مكاريوس أن تميز صليب المسيح بعد أن وضعت الصلبان الثلاثة, الواحد بعد الآخر, علي جثمان رجل ميت, فحدثت المعجزة وقام الميت علي الفور عندما لمسه الصليب الثالث فقط, فتحققت أنه هو بالذات صليب المسيح. فأحنت الملكة رأسها إكراما وتكريما للصليب المقدس, وهكذا صنع المرافقون للمكلة ثم تقدمت هيلانة وأخذت خشبة الصليب المقدس وغلفته بالذهب الخالص, ولفته بالحرير, ووضعته في خزانة من الفضة في أورشليم. وشهد بذلك أيضا القديس أمبروسيوس رئيس أساقفة ميلانو (340- 397) والقديس يوحنا ذهبي الفم وغيرهم من آباء الكنيسة.
ثم أنشأت الملكة هيلانة علي مغارة الصليب, والقبر, كنيسة القيامة, وأقامت فيها الصليب, وأرسلت إلي القديس أثناسيوس الرسولي بابا الإسكندرية تدعوه ليذهب إلي أورشليم ويدشن الكنيسة, فذهب ودشنها في احتفال عظيم عام 328 للميلاد. ولا تزال مغارة الصليب قائمة في كنيسة القيامة إلي الآن يراها كل من يزور الأماكن المقدسة.
ويقول القديس كيرلس بطريرك أورشليم (315- 386)م في كتابه (مواعظ في التعليم المسيحي), إن أساقفة أورشليم كانوا يوزعون من عود الصليب المقدس علي أعيان الزائرين, حتي إن الدنيا امتلأت من أجزاء منه في زمن قليل, ومع ذلك لم ينقص منه شئ وذلك بسبب النشوء والنمو بواسطة القوة التي اتخذها من جسد الرب يسوع الإلهي الذي علق عليه (مقالة 4, 7).
وظل الصليب قائما في كنيسة القيامة إلي أن استولي ملك الفرس كسري Chosroes الثاني ملك الفرس (590- 628)م علي أورشليم عام 614م. وهدم كنيسة القيامة ونقل الصليب معه إلي بلاد الفرس في 4 من مايو- آيار لسنة 614م, ويقول المؤرخون إن الفرس دفنوا الصليب في حفرة, في بستان يقابل قصر الملك, بعد أن قتلوا الشماسين اللذين أمرهما الملك بحمل الصليب إلي البستان, وذلك حتي يخفوا معالم الصليب, ولكن شاء الله أن تشهد هذه الواقعة فتاة صغيرة كانت ابنة كاهن, سباها الملك, وأقامها في بيته.
وفي عهد هرقل Heraclius أمبراطور الروم (610- 641)م, استرد الروم هيبتهم, واستردوا الممتلكات التي أخذها الفرس منهم, ومن بينها عود الصليب (622- 630)م حيث أخرجوه بإرشاد تلك الفتاة من الحفرة التي ظل فيها نحو أربع عشرة سنة, وكان ذلك في عام 629 لميلاد المسيح.
وقال المؤرخون إن هرقل أراد أن يرد الصليب إلي كنيسة القيامة, وأن يحمله إليها بنفسه. فلبس حلته الملكية وتوشح بوشاحه الإمبراطوري, ووضع علي رأسه تاجه الذهبي المرضع بالأحجار الكريمة. ثم حمل الصليب علي كتفه, ولما اقترب من باب كنيسة القيامة, ثقل عليه الصليب إلي درجة كبيرة, ولم يستطيع أن يخطو عتبة الكنيسة, فحار في الأمر, وحينئذ تقدم إليه أحد الكهنة, وقال: اذكر أيها الملك أن مولاك دخل إلي هذا المكان حاملا الصليب, وعلي هامته المقدسة إكليل من الشوك, لا إكليل من الذهب. فيلزم أن تخلع تاجك الذهبي, وتنزع عنك وشاحك الملكي, ليتسني لك الدخول. فرضخ الملك للنصيحة وفعل كما قال الكاهن, وأمكنه أن يدخل الكنيسة في سهولة ويسر, وكأنه يحمل حملا هينا وخفيفا.
وكما تحتفل كنيستنا الأرثوذكسية بعيدين للصليب أولهما في 17 من توت, والثاني في 10 من برمهات, كذلك تحتفل الكنيسة الغربية بالعيد الأول عيد اكتشاف الصليب في 3 من مايو, وبالعيد الثاني لاسترداد الصليب في 14 من سبتمبر, وذلك منذ القرن السادس للميلاد وفي عهد البابا غريغوريوس الكبير علي ما يذكر جيمس جاردنر في موسوعته (أديان العالم)
J. Gardner, the faiths of the world
الجزء الأول صفحة 640 وما بعدها
وتذكر المصادر العلمية أن الصليب المقدس نقل بعد ذلك إلي القسطنطينية, وأودعوه في كنيسة القديسة صوفية, التي تحولت إلي جامع (أيا صوفيا) باسطنبول في عهد محمد الثاني (1429- 1481)م المعروف بالفاتح, إذ أنه فتح القسطنطينية في سنة 1453 للميلاد, ولا يعرف الآن مصير الصليب المقدس.
ولما كان الصليب, هو علامة المسيح (متي 24:30), وبالتالي علامة المسيحيين, وعلم مملكتهم الروحية, فإن لعيد الصليب في كنيستنا القبطية مكانة عظيمة, ويعتبر في مرتبة الأعياد السيدية الكبري, ويعامل في الطقس معاملة الأعياد, والألحان فيه ترتل بالأنغام الشعانيني البهجة. ولعيد الصليب دورة, ولهذه الدورة ترتيب وطقس خاص بها, فيطوفون في أنحاء الكنيسة أثناء خدمة رفع بخور باكر (قبل القداس), ويرتلون ويبخرون ويقرأون أثني عشر فصلا من الإنجيل المقدس في اثنتي عشرة محطة أو موضعا من الكنيسة, ويتهللون بألحان البهجة والخلاص والفرح, ثم يدخلون الهيكل ويطوفون حول المذبح ثلاث دورات, ثم ينزلون ويطوفون في صحن الكنيسة ثلاث دورات, ثم يدخلون مرة أخري إلي الهيكل ويطوفون حول المذبح دورة واحدة, وبذلك يتمون سبع دورات كاملة (أنظر سفر يشوع 6:15) وذلك إشارة إلي كمال الخلاص الذي تم بموت المسيح علي الصليب, لأن العدد 7 من أعداد الكمال في الكتاب المقدس, بل لعله أهمها جميعا. وقديما كانوا يطوفون هذه الدورات في أنحاء المدينة أو القرية, ومازالوا في الأديرة يطوفون أنحاء الدير, في عيد الصليب, وكان من بين العادات القبطية القديمة, أن يحمل الكهنة والشعب صليبا كبيرا من الجريد والنباتات (سعف النخل والزيتون) ويخرجون بالمباخر يصلون حتي يصلوا إلي نهر النيل, وهناك يطرحون الصليب في النيل ليباركوا به النيل ومجراه, ويعودون إلي بيوتهم أو أماكنهم متهللين, ومسرورين, ومشحونين بالنعم السمائية والسعادة الروحية, ولسان كل منهم يردد ما قاله الرسول بولس: (أما أنا فمعاذ الله أن أفتخر إلا بصليب ربنا يسوع المسيح الذي صار العالم به مصلوبا عندي, وصرت أنا مصلوبا به عند العالم) (غلاطية 6:14).