في أعقاب الاضطرابات الواسعة الانتشار التي وقعت في نهاية الأسبوع الماضي في ليبيا, قد يفقد معمر القذافي السلطة خلال ساعات أو أيام حيث تتداعي وحداته العسكرية وأجهزته الأمنية إزاء السخط الشعبي. وبشكل بديل, قد يقرر – وفقا للكلمات المشؤومة لابنه سيف الإسلام – أن ##يقاتل حتي الرصاصة الأخيرة##, مما يلمح عن قيام مستويات من العنف والفوضي هي أكثر ترويعا مما سبق. وفي بث غير منطقي للقذافي الأب من علي شاشات التليفزيون في 22 فبراير, تعهد العقيد ##بالموت شهيدا.##
إن الأطوار الشخصية الغريبة للقذافي, فضلا عن مسئوليته عن إسقاط الطائرة ##بان أمريكان 103## فوق لوكربي في اسكتلندا عام 1988, لن تحدث قدرا كبيرا من الأسف عند رحيله. لكن تحديات هذا التحول في الأحداث, علي من سيشكل الحكومة المقبلة ستكون هائلة. كما يمكن أن تكون عواقب الخطوات الخاطئة علي المنطقة – وخاصة أوروبا التي تعتبر ليبيا مصدرا مهما لها تزودها بالنفط والغاز – كبيرة وسريعة.
الخلفية
في العقود الأربعة الماضية منذ أن قام الزعيم الليبي – مع غيره من ضباط الجيش الشباب – بالإطاحة بالملك إدريس في عام 1969, يحكم القذافي نظريا بلا معارضة. ويتكون النظام الحالي للحكومة من اللجان الشعبية, وقد تم إدخاله عندما قام الرئيس الليبي بتوطيد سلطته في السبعينيات من القرن الماضي. وليس للقذافي نفسه دور رسمي. ومع ذلك, ففي الحقيقة إن ليبيا هي دولة بوليسية, كثيرا ما اتسم فيها القذافي الدكتاتور بأسلوب متقلب الأطوار. إن المؤسسة الوحيدة القائمة في البلاد طوال تلك الفترة هي القذافي نفسه.
وعلاوة علي ذلك, أدت استراتيجية ##فرق تسد## التي يتبعها القذافي إلي تفاقم الانقسامات المجتمعية والقبلية التي هي بالفعل خطيرة في البلاد. وقد ظهر أكثر هذه الانقسامات وضوحا عندما تولي الزعيم الليبي السلطة في بلاده. فقد كان الكثير من المقيمين في إقليم برقة الشرقي (موطن حوالي 30 بالمائة من السكان) يدعمون الملك ,إدريس] بصفة تقليدية – وهو الذي قاد الحركة السنوسية الإسلاموية المتنفذة والمناهضة للاستعمار – ولم يرضوا أبدا بحكم القذافي.
وفي الوقت نفسه, وبخلاف مصر وتونس اللتين خدم جيشاهما المحترفان كحكمين أثناء الاضطرابات الأخيرة, لم يكن الجيش الليبي قط متماسكا أو كفؤا بشكل خاص. وأثناء اختباره الحقيقي الأخير في حرب الحدود مع تشاد عام 1987, كانت خسائر الجيش الليبي حوالي 10 بالمائة, وهو رقم عال بشكل مدهش. ويبدو أن القذافي عمل خلال سنوات علي تجزئة قواته المسلحة بصورة متعمدة لوقاية النظام ضد أية محاولات انقلاب, معتمدا بدلا من ذلك علي العديد من المنظمات الأمنية المتداخلة لحمايته.
دور القبائل
نظرا لتاريخ إقليم برقة, ربما لا تمثل قوة المظاهرات الأخيرة في شرق ليبيا أية مفاجأة. فعلي مدار سنوات كانت المنطقة تعتبر مرتعا نسبيا للمشاعر المعادية للنظام, وأبرزها مدن بنغازي ودرنة. كما أن التقارير عن الهروب من الخدمة العسكرية – بما في ذلك هروب طيارين لطائرات مقاتلة من طراز ##ميراج إف 1## قيل أنه صدرت إليهما الأوامر بالهجوم علي المدنيين لكن بدلا من ذلك هبطا في مالطا – لم تأت أيضا كمفاجأة كبيرة.
وينحدر العديد من مجندي الجيش من هذه القبائل التي تبدو منحازة بشكل متزايد ضد القذافي, في الوقت الذي تنتشر فيه الأخبار عما يرتكب من أعمال وحشية. كما أعلنت قبائل رئيسية عديدة وبصورة صريحة عن معارضتها لحكمه المستمر, ويتمركز معظمها في الشرق. فعلي سبيل المثال, هددت قبيلة ##الزاوية## قرب بنغازي بقطع صادرات النفط لو بقي العقيد في السلطة. وفي 1 فبراير, أعلنت قبيلة ##ورفلة##– إحدي أكبر قبائل ليبيا المقيمة جنوب طرابلس – عن انضمامها إلي الحركة للإطاحة بالرئيس الليبي.
فرص بقاء النظام
للمتتبع من الخارج, يبدو أنه من الصعب هزيمة مجموعة القوي التي تصطف ضد النظام. ومع ذلك, ما تزال لدي القذافي أوراق قليلة يستطيع اللعب بها. فخلال كلمة ألقاها نجله وبثها التليفزيون الليبي ليلة الأحد, قال سيف الإسلام إن النظام سيكون مستعدا للقيام ببعض الإصلاحات ##الجذرية## لكن غير المحددة. بيد, حذر بأن ليبيا قد تنزلق إلي حرب أهلية دموية إذا لم يذعن المتظاهرون.
وعلي الرغم من أن التهديد الأخير كان لخدمة مصالح سيف الذاتية, فمع ذلك كانت له بالفعل وجهة نظر صحيحة نظرا للمسار الحالي للصراع. وفي الواقع, أظهر النظام إلي أي مدي هو قاس في جهوده لإخماد الثورة, مع وصول عدد الجثث إلي المئات, ونشر المروحيات الحربية في طرابلس. وبالفعل, فخلال سنواته الاثنين والأربعين في الحكم لم يظهر النظام أي تأنيب للضمير إزاء قتل المواطنين الليبيين أو الرعايا الأجانب. ورغم أن ضراوة جهود القذافي لوقاية نفسه كانت متوقعة – حيث يقود أحد أبنائه الآخرين, خميس, الوحدة المسئولة عن حماية النظام – فإن كل عمل وحشي إنما يؤكد فقط أن ولاء هذه الوحدات ما يزال مرتبطا بالدكتاتور. ومع ذلك, فإذا سقط النظام فإن أولئك الجنود المتورطين في العنف يمكن أن يواجهوا حبل المشنقة.
وبالنظر إلي التلاحق السريع للأحداث, من الممكن أن ينهار النظام في أية لحظة. ولو استمر – رغم ذلك – فإن ما يتبقي حينئذ من الدولة يمكن أن يواجه قتالا داخليا لبعض الوقت في المستقبل.
الإسلاميون والارتباطات بتنظيم القاعدة
إذا ما استمرت الأزمة, يمكن أن تستفيد منها الحركة الإسلامية التي طالما قمعت في البلاد. وتتمتع الحركة التي تقودها ##الجماعة الإسلامية المقاتلة الليبية## بتاريخ لافت من دعم القضايا الجهادية حيث عملت مع تنظيم القاعدة لفترة زادت علي عقد. ومنذ عام 2003, كانت ليبيا المصدر الثاني (بعد السعودية) كدولة يأتي منها المتمردون الداخلون إلي العراق عن طريق سوريا. وليس من قبيل المصادفة أن يتقاطر أكثرية هؤلاء الجهاديين من درنة, بؤرة التمرد. ومؤخرا تم الإعلان عن تأسيس ##الخلافة الإسلامية## من قبل السكان المحليين في قرية البيضاء – التي لا تبعد كثيرا عن درنة – بعد تحريرها هذا الأسبوع.
ثروات النفط والغاز
تناقلت الأخبار بأن منشآت تصدير النفط ومعامل تكريره في ليبيا قد أغلقت بالفعل بسبب الإضرابات. وتتمتع البلاد بثروة كبيرة من النفط والغاز رغم أنها ليست ضخمة كما هو الحال في دول الخليج العربي: السعودية وإيران والعراق والكويت والإمارات العربية المتحدة. ومع ذلك, فما تزال احتياطياتها أكثر من تلك التي تملكها الدول الأفريقية الأعضاء في ##منظمة الدول المصدرة للنفط## (##أوبك##) وهي: الجزائر وأنجولا ونيجيريا. ويمكن أن تكون قدرة الاحتياطي العالمية كافية لتحل محل أية انخفاضات ليبية, لكن المزايدة علي الأسعار كان رد الفعل الفوري لأسواق النفط.
ويذهب معظم نفط ليبيا إلي أوربا خاصة إيطاليا – وهي رحلة قصيرة نسبيا عبر البحر المتوسط – التي تستورد حوالي الثلث. كما أن ألمانيا وفرنسا واسبانيا هم مشترون مهمون أيضا, وحتي الصين تستورد 10 بالمائة من نفط ليبيا.
ولدي ليبيا أيضا احتياطيات كبيرة من الغاز الطبيعي, علي الرغم من أن الجزائر ومصر المجاورتين تنتجان كميات أكبر بكثير منها. وهنا أيضا نجد أن إيطاليا هي العميل الرئيسي, حيث يتم نقل الغاز عبر خط أنابيب بطول 370 ميلا تحت البحر من ليبيا إلي صقلية, ومنها يتم نقله بالأنابيب إلي داخل الأراضي الإيطالية. كما تقوم ليبيا أيضا بشحن الغاز المسال في السفن إلي أسبانيا.
توصيات سياسية
علي الرغم من أن الولايات المتحدة تعمل دبلوماسيا لتسهيل انتقال ديموقراطي للسلطة في تونس ومصر, إلا أن الموقف في ليبيا يستدعي تدخلا عاجلا وربما عسكريا. وفي المنطقة, دعت قطر إلي توسط جامعة الدول العربية بصورة عاجلة, وأدانت العنف ضد المدنيين الليبيين. غير أنه بالنظر إلي سجل الإمارة – كاستضافة مجرم الحرب المدان في قضية دارفور عمر البشير في القمة العربية في الدوحة عام 2009 – فإن القطريين ربما لن يمثلوا صوتا أخلاقيا مقنعا. إن المكان الأكثر رجحانا لتحقيق التقدم هو مجلس الأمن الدولي الذي يجتمع في الثاني والعشرين من فبراير لمناقشة الأزمة.
إن أحد المقترحات التي ربما ينظر فيها المجلس هو فرض منطقة حظر الطيران في جميع أنحاء ليبيا لوقف القذافي من استخدام الطائرات المقاتلة والمروحيات الهجومية ضد المدنيين. وسيكون هذا مشابها للمنطقة التي أقيمت فوق شمال العراق خلال عهد صدام حسين لحماية المدنيين الأكراد. وكما في العراق, سوف تتطلب العملية الليبية قيام الولايات المتحدة بأخذ الدور المهيمن بدعم من حلفائها الأوربيين. ومن أجل العمل تحت رعاية الأمم المتحدة, سوف تتطلب هذه العملية أيضا الموافقة الروسية والصينية والتي ربما لا تكون وشيكة. ومع ذلك, يمكن أن يكون الاتحاد الأوربي أكثر دعما نظرا إلي مخاوفه إزاء التعطل المحتمل لإمدادات الطاقة وتدفق المهاجرين الذين يغادرون ليبيا لأسباب اقتصادية والذي سيمثل أعدادا هائلة من طالبي اللجوء. لكن وجود الآلاف العديدة من مواطني أوربا, وكذلك الولايات المتحدة, في ليبيا سوف يثير الحذر لدي هذه الدول.
وعلاوة علي العمل علي الجبهة الدبلوماسية وفحص عمليات حفظ السلام المعتمدة علي الجيش ينبغي علي ##وكالة الطاقة الدولية## — التي مقرها في أوربا (وتشارك فيها الولايات المتحدة) — أن تفحص خططها حول تحمل عبء انقطاعات إمدادات الطاقة عن طريق إطلاق مخزونات الطوارئ. وقد تثبت هذه الخطوة ضروريتها علي الرغم من تصريح وزير النفط السعودي علي النعيمي في 22 فبراير بأن ##منظمة الدول المصدرة للنفط## سوف تعوض عن أي ##نقص في الإمداد##, وهو تعبير ربما لا يخفف من صدمة الأسعار.
إن الأحداث في ليبيا هي مثال قوي علي التوق نحو قدر أكبر من الحرية عبر أنحاء العالم العربي, ومن المرجح أن تشجع علي قيام اضطرابات في أماكن أخري. وفي الواقع, تأثرت بذلك بالفعل دول شمال إفريقيا المجاورة وهي الجزائر والمغرب. لكن يجب علي واشنطن أن تضع في اعتبارها أن هذه العمليات لا تنتهي بالضرورة خلال أيام قليلة حتي عندما يرحل الطغاة وسط تهليل المحتجين.
فورين بوليسي