لدي توليه مهمة قيادة القوة الأمنية الدولية المساعدة في أفغانستان, كان الجنرال ديفيد بترايوس قد بعث بالرسالة الصحيحة تماما: ##نحن هنا لننتصر##. وكانت النساء الأفغانيات الأكثر ترحيبا بهذا الالتزام مخافة القهر الواقع عليهن, وكذلك الآباء الذين يخشون مهاجمة وجوه وأجساد بناتهم بالأحماض الحارقة لمجرد ذهابهن إلي المدارس. كما رحب بتلك الرسالة عدد لا يستهان به من المواطنين الخيرين الذين يهمهم بناء مستقبل إنساني لائق بوطنهم, لكنهم يخشون من اقتصاص مقاتلي حركة ##طالبان## منهم ##لتعاونهم مع الأعداء##, فيما لو عادت الحركة إلي سدة الحكم تارة أخري.
بيد أن عبارة بترايوس الواردة أعلاه ##نحن هنا لننتصر## لم تعد من العبارات التي يتكرر سماعها كثيرا في واشنطن هذه الأيام. فبدلا من هذا الصوت, علت نبرة الكتاب الجديد الصادر للتو ##حروب أوباما## لمؤلفه ##بوب وودوارد##, الذي يسلط الضوء علي الخلافات حول سياسات الحرب بين القادة الرئيسيين المسئولين عنها. كما يميل معظم الحوار العام الدائر عن الحرب إلي تبرير خفض الالتزام الحربي الأمريكي في أفغانستان, بدلا من تجديد عزمنا والتزامنا الطويل المدي وتأكيد إرداتنا بما يمكن استراتيجيتنا من الفوز بالحرب.
وبسبب موجة الغضب الشعبي الأمريكي, جراء الصعوبات الاقتصادية وارتفاع معدلات البطالة, وتضخم العجز المالي الحكومي, وعدم استجابة واشنطن لهذه التحديات الاقتصادية الداخلية بما يقنع عامة الجمهور الأمريكي, فربما تكون انتخابات نوفمبر النصفية المقبلة, معركة فارقة في تغيير تركيبة الإدارة الحالية, لما فيها من هيمنة للحزب ##الديمقراطي## علي أجهزة الكونجرس.
ومن البديهي ألا يرغب الشعب الأمريكي في حرب استنزافية طويلة المدي, وبلا هدف أو غاية. لكنه يرفض فشل جهود بلاده في أفغانستان بالقدر نفسه. كما لا يرغب أحد في عودة حركة ##طالبان## إلي سدة الحكم, ولا في شن حملة ثأر جديدة لعناصرها ومقاتليها ضد المواطنين المدنيين, تسودها انتهاكات فظيعة لحقوق الإنسان, ضحيتها الغالبة من النساء والأطفال. ويدرك المواطنون الأمريكيون أنه فيما لو عادت حكومة ##طالبان##, فإن في ذلك تهديدا خطيرا لاستقرار باكستان, وفيه ما يوفر ملاذات ومعسكرات تدريب واسعة للإرهابيين والمتطرفين الدوليين, ونشر أيديولوجية العنف والكراهية للآخر, التي نفذت بدوافعها هجمات 11 سبتمبر. والأخطر من ذلك أن واشنطن سوف تكون قد بعثت برسالة واضحة إلي العالم بأسره -في حال انسحابها من أفغانستان- مفادها أن من المستحيل الثقة بأي التزام أمريكي طويل المدي هناك.
وفي مواجهة خياري الفشل والاستمرار في خوض حرب بلا معني, فإن هناك خيارا واحدا معقولا هو الانتصار للجهود المبذولة منذ غزونا لأفغانستان في نهايات عام .2001 وعلي رغم الصعوبات الكبيرة التي يواجهها هذا المجهود الآن, فإن الاستمرار فيه لايزال يمثل الطريق الصحيح نحو تحقيق الهدف الرئيسي للحرب: دحر التطرف والإرهاب الدوليين عن طريق التعاون مع المجتمعات المحلية الأفغانية, والدعم اللازم تقديمه من قبل المجتمع الدولي لهذه المجتمعات التي تطمح إلي بناء مستقبلها وليس تدميره.
ولما كان هذا هو الهدف الرئيسي, فلماذا تتقاعس الولايات المتحدة عن تطبيق استراتيجيتها؟ يلاحظ أننا نتحدث عن استراتيجية ##أفباك##, وهي استراتيجية إقليمية تشمل أفغانستان وباكستان معا, غير أننا في الواقع نركز جهودنا كلها علي أفغانستان. عليه فنحن بحاجة إلي اهتمام أكبر بباكستان, وإلي بناء الجسور علي مستوي المنطقة الإقليمية بأسرها, فضلا عن تحسين علاقات البلدين بكل من الهند والصين, وإلي ربط المنطقة بالاقتصاد العالمي.
وعلي رغم حديثنا عن استراتيجية عسكرية-مدنية شاملة, فإن الحقيقة هي أننا نركز علي الجانب العسكري أكثر من اهتمامنا بالجانب المدني من هذه الاستراتيجية. نتيجة لذلك فقد تأخر تعزيزنا لنظام الحكم والاقتصاد الوطني الأفغاني. وما لم تتوافر مشاريع التنمية الاقتصادية الجزئية, المعززة بأنشطة الاستثمار الجزئية, فسوف تستمر معاناة المنطقة بأسرها من ارتفاع معدلات البطالة وانتشار الفقر واليأس بين المواطنين, بينما يزداد إغراء انضمام أعداد أكبر منهم إلي صفوف الإرهابيين والمتطرفين الذين يملكون المال والسلاح.
وعلي رغم كثرة حديثنا عن نظام الحكم الرشيد, فقد استمر فشلنا في بناء نظام حكم محلي يحظي بثقة الأهالي, في ذات الوقت الذي يستمر فيه تعاوننا مع الرئيسين الأفغاني والباكستاني بغية تحسين أداء أجهزة الحكم والدولة, ومكافحة الفقر.
ولعل الجانب الأسوأ من النكوص عن استراتيجيتنا المطبقة هو أنه وعلي رغم رسالة بترايوس ##نحن هنا لننتصر##, فإن تحديد جدول زمني لانسحابنا من أفغانستان, وفرض قيود محددة لاستمرار التزامنا هناك, إنما فيهما تقويض لاستراتيجيتنا نفسها, ولتلك الرسالة الواضحة التي بعث بها الجنرال بترايوس. وفي الوقت الذي يبتهج فيه أعداؤنا بقرب موعد الانسحاب المقرر, نري الحلفاء الدوليين يستعدون لساعة الرحيل هذه.
والمفارقة أن استراتيجيتنا المعلنة لاتزال تمثل هدفا رئيسيا نسعي لتحقيقه, ولكننا أصبحنا بحاجة ماسة إلي إعادة النظر في الكثير من أفعالنا وممارستنا العملية, خاصة وأنهما يسهمان في تقويض أهدافنا الاستراتيجية, بدلا من تحقيقها!
ولكي نصل إلي هذه الأهداف, فإن علينا تحسين أدائنا في جبهتين رئيستين هما القيادة والتنفيذ. وعلي مستوي القيادة, فإن من واجب أوباما أن يؤكد عزمنا والتزامنا بتحقيق أهداف استراتيجية ##أفباك## الإقليمية الشاملة لأفغانستان وباكستان. فنحن بحاجة إلي تأكيد التزام سياسي اقتصادي طويل المدي إزاء هذه المنطقة. وعلي المستوي القيادي أيضا, لا يقل دعم الكونجرس الثنائي الحزبي لهذه الاستراتيجية. بذلك تبقي أمامنا جبهة التنفيذ. وهذه تتطلب إعطاءنا قدرا متكافئا ومتوازنا من الاهتمام للجانب العسكري-المدني من الاستراتيجية الإقليمية المعلنة.
أستاذ في مركز العلاقات الأطلسية بجامعة جونز هوبكنز
كريستيان ساينس مونيتور