أثناء حملته الرئاسية لعام 2008, وعد أوباما بوضع حد لعزلة أمريكا الخارجية, والانخراط في الشؤون الدولية. وقد سعي خصومه إلي رد هذا المقترح إلي نحره, بوصف ذلك الوعد بأنه ساذج. لكن أوباما اعتبر انتخابه للمنصب الرئاسي تفويضا له للانخراط في ما وعد به. وليس من وعود حملته الانتخابية ما يفوق التزام إدارته بتطبيقه لما وعد به في مجال السياسة الخارجية.
وبالطبع فإن الانخراط, لا يصنع بحد ذاته السياسة الخارجية لدولة ما, غير أنه يمثل عاملا مهما للغاية من العملية التي نسعي بواسطتها إلي الدفع بأهدافنا الدولية, فضلا عن أنه العامل الذي ينبغي لبلادنا أن تستثمر كثيرا من رأس المال السياسي والبشري.
وحين يدشن السيناتور السابق جورج ميتشل عملية التفاوض غير المباشر بين الإسرائيليين والفلسطينيين الأسبوع المقبل, فإننا نتوقع للولايات المتحدة أن تكون قد دخلت مرحلة جديدة وصعبة من سياسة أوباما الخارجية الداعية للانخراط في التفاوض الدبلوماسي. وهنا في منطقة الشرق الأوسط, لا تبدو الأجواء واعدة. فعلي امتداد سنوات عديدة, التقي الطرفان علي نحو منتظم في أجواء أكثر ملاءمة وودا إلي حد ما. غير أن التوتر الذي حدث بينهما خلال العام الحالي, جراء سياسات التوسع الاستيطاني الإسرائيلي, باعدت المسافة بينهما. وعليه فإن كسر طبقة الجليد هذه, والعودة بكلا الطرفين إلي مرحلة التفاوض المباشر وجها لوجه, لا شك تطالبان ##ميتشل## بكل الصبر والقدرة علي الإبداع علي نحو ما فعل سابقا في حل النزاع الإيرلندي.
وكنت قد زرت المنطقة 20 مرة في عهد إدارة كلينتون, بهدف التوسط في إبرام صفقة تعاد بموجبها هضبة الجولان إلي سوريا, عبر المفاوضات غير المباشرة بين تل أبيب ودمشق. وقد كشفت لي تلك الزيارات والمحاولات مدي فشل المحادثات غير المباشرة. فقد ساهم غياب بناء الثقة بين الجانبين, وكذلك عدم إجراء المفاوضات المباشرة وجها لوجه بينهما, في عجز حافظ الأسد عن تجاوز مخاوفه من النوايا الإسرائيلية. كما كان لاغتيال رئيس الوزراء الإسرائيلي إسحق رابين, في الرابع من نوفمبر من عام 1995, عامل مهم في تغييب دوره ونفوذه من المفاوضات التي أجريت حينها. وفي نهاية الأمر, فقد باءت كافة الجهود التي بذلناها في إعادة المفاوضات إلي مسارها الصحيح.
وإلي جانب الدور الذي يقوم به ميتشل, فقد واصل أوباما سعيه لاستخدام التفاوض الدبلوماسي بوصفه أداة مهمة لتحقيق أهداف سياساته الخارجية. وأحد أهم هذه الأهداف, وهو ما أكده أثناء تسلمه لجائزة نوبل للسلام: الحيلولة دون انتشار الأسلحة النووية, والعمل من أجل عالم خال من تلك الأسلحة. وكان لتدخله الشخصي المباشر في التفاوض مع نظيره الروسي ديمتري ميدفيديف, أهمية كبيرة في إبرام اتفاقية جديدة بديلة لمعاهدة ##ستارت## المعنية بخفض الأسلحة الاستراتيجية, التي انتهت مدة صلاحيتها في شهر ديسمبر المنصرم.
وكان التوقيع علي الاتفاقية الجديدة في براغ الشهر الماضي, ثمرة للجهود المشتركة للرئيسين, نتج عنها الاتفاق علي خفض كبير لترسانة الدولتين من الأسلحة النووية, إلي جانب المساهمة في تعزيز العلاقات الأميركية-الروسية عموما.
كما اتضحت الأولوية التي يعطيها أوباما للتفاوض الدبلوماسي, في ما جري من تبادل بين واشنطن وبكين مؤخرا. فتحت تأثير عدم الرضا عن بكين لإرسالها وفدا دون المستوي الرئاسي للقاء به في مؤتمر قمة التغير المناخي التي عقدت في كوبنهاجن, أعلن أوباما عن صفقة لبيع أسلحة جديدة لتايوان, وهو ما أبدت بكين اعتراضا قويا عليه. ولمنع خروج هذه التوترات عن السيطرة, بعث أوباما, بنائب وزير الخارجية, ##جيمس شتاينبرج## إلي بكين, بهدف طمأنة مسؤوليها علي التزام بواشنطن بوحدة التراب الصيني, وعدم دعمها لأي نزعات انفصالية سواء كانت في تايوان أم في إقليم التبت. ومن جانبها أعلنت بكين عن اعتزام الرئيس هو جنتاو زيارة واشنطن قريبا لحضور مؤتمر القمة النووي الذي استضافته واشنطن. وأثناء حضوره للمؤتمر, أعرب ##هو جنتاو## عن استعداد بلاده لإعادة النظر في فرض عقوبات دولية جديدة علي إيران بسبب برنامجها النووي. وقد كان ذلك الإعلان تطورا كبيرا دون شك.
كما كان تحسين الأداء في مجال حقوق الإنسان, موضوعا رئيسيا للتفاوض الذي جري مع حكومة ميانمار القمعية. ففي العام الماضي, ذهب إلي ميانمار دبلوماسيان أمريكيان رفيعا المستوي, وطالبا الطغمة العسكرية الحاكمة هناك بتخفيف القيود المفروضة علي الحريات المدنية والعامة, وسمح لهما بمقابلة زعيمة المعارضة أونج سان سوكي. كما تم وضع جدول زمني لإجراء انتخابات برلمانية, هي الأولي من نوعها خلال العشرين عاما الماضية, وقد لقيت ترحيبا كبيرا هناك علي رغم القيود المحيطة بها. إلي جانب ذلك, أطلقت طغمة ميانمار أحد السجناء الناشطين في مجال التحول الديموقراطي. ولا يعد هذا تقدما كبيرا, لكنه من الأهمية بما يكفي لتأكيد التزامنا بهذه القضايا.
وقد تبدو أهداف السياسة مضللة وواهمة في بعض الأحيان, علي رغم الجهود الكبيرة التي تبذل فيها. فعلي سبيل المثال, كانت إيران قد أبدت استعدادا مبدئيا علي نقل ما لديها من يورانيوم إلي الخارج بهدف تخصيبه تحت إشراف الوكالة الدولية للطاقة الذرية, إلا أنها غرقت في بحر من الصراعات والنزاعات الداخلية, علي إثر انتخابات رئاسية مثيرة للخلاف, وتصاعد المعارضة الداخلية, وعلي رغم هذه التطورات, يواصل أوباما جهوده لفرض عقوبات أشد علي طهران, إرغاما لها علي التراجع عن طموحاتها النووية. ولا شك في أهمية التفاوض مع جميع الدول الأعضاء في مجلس الأمن الدولي, لا سيما الصين وروسيا, بغية تمرير هذه العقوبات عبر الأمم المتحدة. هذا ويتمثل محك الاختبار الحقيقي لجهود التفاوض, التي بذلها أوباما, في الحالات الأكثر صعوبة, مثل إيران وكوريا الشمالية.
وزير خارجية أمريكا الأسبق
إم.سي.تي. إنترناشيونال