ما الذي تفعله دولة ما عندما تواجه العديد من التحديات الخارجية, والتهديدات الوجودية, وعندما يكون لديها مصالح, وعليها التزامات تمتد في أركان العالم الأربعة؟ هذه الدولة تحتاج إلي أن تفكر أكثر, وأعمق, مما كانت تفعل في السابق. وتحتاج لأن تأخذ نفسا عميقا ثم تبتلعه قبل أن تقوم باتخاذ بعض القرارات المهمة, وأن تكون قاسية نوعا ما كي تحافظ علي مصالحها الحيوية, وقد – والدولة التي أكتب عنها هي الولايات المتحدة في عالم اليوم المضطرب – تحتاج إلي إعادة تقييم وضعها العالمي, ومستقبلها العالمي أيضا.
منذ أيام قلائل, قدم ##البنتاجون## مراجعته الدفاعية التي يفوضه الكونجرس بإجرائها كل أربع سنوات, وهي عبارة عن عملية مسح شامل, يجريه عدد من أذكي المخططين العسكريين الأميركيين, حول التحديات الأمنية الرئيسية, ويحدد القرارات التي يتعين اتخاذها بخصوص كل من الأولويات الإقليمية, والإنفاق التسليحي.
قراءة هذه الوثيقة, يتبين لنا أن البيت الأبيض و##البنتاجون## لا يزالان يتصارعان مع مشكلات قديمة, وخصوصا تلك المتعلقة منها بأولويات الإنفاق العسكري, وأن هناك بعض القرارات بالغة الأهمية يجري اتخاذها بخصوص بعض منظومات التسليح, ومن أبرزها طائرة القوات الجوية باهظة السعر المقاتلة## إف22. رابتور##.
من ناحية أخري تقترح هذه الوثيقة رفع ميزانية الدفاع السنوية لتتجاوز 700 مليار دولار, كما تقترح إرسال المزيد من القوات لأفغانستان. ومؤيدو زيادة ميزانية الدفاع, لديهم أسباب عديدة يبررون بها هذا التوسع في الميزانية, وتلك الزيادة في عدد القوات.
من هذه الأسباب, أن حرب أفغانستان ستصبح## لفترة من الوقت كما يأملون## أكثر تكلفة, وليس أقل, وأن الشرق الأوسط لا يزال هشا, و##القاعدة## تتوسع عبر جنوب الجزيرة العربية وفي أفريقيا, ونظام بوتين لا يبدو أنه ينوي خيرا في تعامله مع الدول المجاورة, وأسلحة الدمار الشامل تزداد انتشارا, والدول المنهارة التي أطاح بها الفقر, والعنف العرقي, تتحول الآن لتصبح ملاذات للإرهابيين. وهناك إلي جانب ذلك كله التهديد الخاص بتنامي القدرات العسكرية والاقتصادية للصين, والتحول في الميزان الاستراتيجي في منطقة آسيا – الباسيفيكي.
وإذا أضفنا إلي ما سبق ذلك الفيض من الأسئلة حول الاقتصاد الدولي الهش, وبشكل أكثر تحديدا العجز الفلكي في الميزانية الأميركية, فإننا سنجد أنفسنا حتما أمام سؤال يثير قلق الأميركيين والعديدين من مؤيدهم في الخارج وهو: هل تتوافر لدي الولايات المتحدة الإمكانيات, والقدرة علي تنفيذ, جميع الأشياء التي تبدو عاقدة العزم علي إنجازها سواء ما تعلق منها باحتياجاتها الداخلية أو متطلباتها الخارجية؟
هذا كله يشكل السياق الذي يجد فيه الآن أوباما, ووزير دفاعه ورئيس أركان جيشه, ومن سيأتي بعدهم, أنفسهم مضطرين لبذل محاولات للتوصل إلي استنتاجات صعبه حول الإنفاق الدفاعي في المستقبل, وحول الحصول علي موافقة أغلبية أعضاء الكونجرس, الذين يجأرون بالشكوي دون توقف حول العجوزات الفيدرالية غير القابلة للاستدامة, ولكنهم يحاربون – مع ذلك – حتي آخر رمق للحيلولة دون إجراء أي خفض في إنتاج الأسلحة, وفي عدد القواعد العسكرية الموجودة داخل دوائرهم الانتخابية.
وبالنسبة للمراقب الخارجي, أو بمعني آخر بالنسبة لشخص ما ليس مضطرا للمفاضلة بين تلك الخيارات الصعبة, فإن إغراء الإشارة إلي بعض الدروس من التاريخ العسكري والبحري يعد إغراء لا يقاوم. من بين هذه الدروس: أن منظومات الأسلحة وبنياتها, التي تمنح صانعي القرار أكبر قدر ممكن من المرونة تعتبر مفضلة علي غيرها, خصوصا في الأوقات الاقتصادية العصيبة, مقارنة بتلك المخصصة لعدد محدود من سيناريوهات الحرب.
ففي الحرب العالمية الثانية علي سبيل المثال, كانت الطائرة الأكثر فائدة علي الإطلاق هي طائرة ##موسكيتو## متعددة الأغراض, والمزودة بمحركين, والتي كانت قادرة علي الطيران علي ارتفاع هائل دون أن تتمكن الرادارات من رصدها, والطيران أيضا علي ارتفاع منخفض لشن الهجوم علي دبابات العدو ومدرعاته علي الأرض وسفنه الحربية في البحر, كما كان يمكنها حمل كميات كبيرة من القنابل, والعمل في أي منطقة في العالم, أي أنها كانت مقاتلة, وقاذفة, وطائرات استطلاع واستكشاف مدمجة كلها في شيء واحد. ما الذي يعنيه ذلك بالنسبة لحالة القوات المسلحة في عهد أوباما اليوم؟ وما الذي يعنيه بالنسبة لقدرات أميركا ذاتها وقوتها؟
للإجابة علي هذا السؤال, يجب أن نعرف أولا أن بعض المنظومات تطغي عليها صفة البعد الواحد أكثر من غيرها, فعلي سبيل المثال نجد أن ##دبابات المعركة الرئيسية##, والمدفعية الثقيلة, التي صممت من أجل الاستعداد لاحتمال خوض حرب ضد الجيش الأحمر السوفييتي, لا تصلح للاستخدام في جبال أفغانستان اليوم, تماما كما أنها لم تكن تصلح للاستخدام في حقول الأرز الشاسعة والمغمورة بالمياه في فيتنام.
القوات البرية شأنها في ذلك شأن ##المارينز##, والقوات الخاصة, يمكنهما العمل بشكل جيد للغاية في كل مكان, والمروحيات أيضا يمكن نشرها في أي مكان إلا حيثما تسود ظروف جوية رديئة, والغواصات البحرية الهجومية موجودة في كل بحار العالم ومحيطاته (لماذا لم نرسل واحدة منها لإخافة القراصنة الصوماليين)؟## أما امتلاك دستة حاملات طائرات, فيبدو شيئا زائدا عن الحد إذا أخذنا في اعتبارنا التفوق الهائل للبحرية الأميركية علي ما عدها من بحريات.
آلان قد يسأل القارئ – عن حق:##من المؤكد أن أول ما يتعين عمله في وضع كهذا هو أن نحدد التهديدات, ومن هم الأعداء الذين يتربصون بنا, ثم نحدد بعد ذلك نوعيه الأسلحة التي نحتاجها لمواجهتهم؟.
سؤال جيد, لأنه يعني في الآن ذاته أن القيادة الأميركية سوف تضطر -علي أقل تقدير – للمفاضلة بين الأسلحة, وبني القوة التي تصلح لمواجهة الأخطار المحددة, وتلك التي لا تصلح. يعيدنا هذا مرة أخري إلي النقطة التي تناولناها من قبل وهي: طالما أن البيت الأبيض, والبنتاجون, ووزارة الخارجية, والكونجرس لا يريدون أن يقوموا بتلك المفاضلة بين الخيارات, فإن هذا سيتركنا أمام مجموعة قرارات من النسق الثاني, مثل التخلص من عدد محدود من المنظومات التسليحية التي يبدو أنها لم تعد ملائمة للعمل, أو التي تبين أنها مكلفة بصورة مبالغ فيها.
والمشكلة هي أن الشيء الذي يتعين عمله في هذه الحالة – وهو إجراء عملية تنظيم حقيقي للأولويات الاستراتيجية, وإجراء خفض أكثر أهمية لتشكيلتنا الواسعة من منظومات الأسلحة – لن يتم عمله, وسنستمر في توزيع## بيض## المخصصات الدفاعية الأميركية, علي عدد كبير جدا من## السلال##.
هذا ليس بالحل الملائم للقوة الأولي في العالم خصوصا في هذا القرن الذي يتسم بكثرة تهديداته وتنوعها, ولكنه قد يكون المسار الوحيد المتاح في الوقت الراهن. وهنا يكون السؤال: حسنا ولكن إلي متي يمكن أن يستمر ذلك؟
استاذ التاريخ بجامعة ##يل##
خدمة ##تريبيون ميديا سيرفس