جنوب السودان أحدث دولة في خريطة أفريقيا والعالم, ولدت بعد صراعات دامت عقود طويلة, الدولة التي قال عنها الرئيس الأمريكي الأسبق جيمي كارتر إن الجنوبيين ستتبخر نشوة فرحتهم بالانفصال, عقب إعلان النتيجة وذلك قبيل انتهاء الاستفتاء بيومين فقط, وأشار كارتر إلي مخاوفه علي مستقبل الدولة الوليدة خاصة التحديات التي ستواجه الجنوب في أزمة الحكم, معتبرا أن القبلية والتناحر السياسي وانهيار البنية التحتية عوامل أساسية دعته للتشاؤم نحو مستقبل الحكم.
تعود مشكلة جنوب السودان الذي يختلف عن الشمال في أوجه كثيرة عرقا وثقافة ودينا ولغة, إلي العهد الاستعماري أي قبل رفع علم استقلال السودان عام 1956 إلا أن الأنظمة التي تعاقبت علي الحكم بعد الاستقلال عسكرية كانت أم مدنية عمقتها حتي اجتازت الحدود وامتدت إلي بقية المناطق المهشمة الأخري.
انطلقت الشرارة في أغسطس 1955م بتمرد كتيبة من الجنود الجنوبيين في مدينة توريت. وبعد ذلك امتدت الحرب الأهلية المدمرة إلي عقود من الزمن استغل فيها الجيش السوداني كأداة قهر وكيد لشعب جنوب السودان وكل من طلب حقه الشرعي في المساواة والعدالة واقتسام الثروة والسلطة.
الاستقلال ضرورة حتمية
أوضح السفير رخا أحمد حسن مساعد وزير الخارجية الأسبق أن الإعلان الرسمي لانفصال جنوب السودان عن شماله جاء نتيجة الاستفتاء الذي جري في يناير الماضي وكتب أحد المكلفين بالإشراف علي مجرياته حيث اتفق الطرفان علي وجود السلام والتعاون المستثمرين الدولتين.
وأكد رخا أن قبول الانفصال أصبح أمرا واقعا خاصة أنه أهل الجنوب شعروا خلال سنوات طويلة سابقة بالدونية والمعاملة السيئة والإهمال والتهميش والتفرقة وعدم وجود أي نوع من عمليات التنمية فكان التركيز يتم علي المناطق المركزية في الشمال الأمر الذي جعلهم يفضلون الاستقلال ومواجهة كافة التحديات والعقبات والمشكلات التي قد تظهر بعد الانفصال.
وأضاف السفير رخا أن كافة المراقبين والمهنيين يعلمون أن الانفصال ليس هو الحل الأمثل ولكنه ضرورة لابد من قبولها, فمشاكل القائمة بين القبائل حول المراعي والأراضي سوف تظل مستمرة سواء مع الوحدة أو الاستقلال.
ولكن هناك عدة مشاكل وقضايا عالقة وأزمات كثيرة لابد من وضعها في الاعتبار, فالمواطنون الجنوبيون المقيمون في الشمال ستسحب منها الجنسية والإقامة رغم ارتباطها بالشمال ووجود علاقات ومصاهرة, كما أن الجنوب يعاني من أمية وفقر مدقع وغياب للخدمات الصحية مع ارتفاع نسبة الوفيات خاصة في سن المواليد, مع وجود أزمات اقتصادية كبيرة, نتيجة عدم وجود مخارج بحرية لصادراته التي قد تؤثر علي مصالحه التجارية.
من ناحية أخري مازالت مشكلة الحدود لم تحسم بعد فمشاكل آبار البترول التي يسيطر عليها الأغلبية العظمي منها الجنوبيون بنسبة تتجاوز 75% وفي نفس الوقت لا يملك الجنوب أنابيب للبترول الذي يتم تصديره عن طريق سيناء بورسودان في الشمال فالاحتياج متبادل بين الجانبين, فكافة هذه الأمور تحتاج إلي تنظيم ووضع أسس يجب السير عليها حتي لا تتولد مشكلات وصراعات جديدة خاصة في ظل اكتشافات بترولية جديدة في الجنوب قد يمنعها عن الشمال علما بأن كافة الاتفاقيات التي عقدت بين الطرفين جميعها تنص علي وجود السلام الشامل وضرورة تقاسم الثروة بين الدولتين.
واستكمل السفير رخا أن العديد من التوترات والمناوشات بين جنوب السودان والدول المجاورة له, والتي قد تزداد حدتها بعد الانفصال, خاصة أن الجنوب امتنع عن تقديم أي مساعدات لجيش الرب الذي كان من جانبه يقوم بدور الدفاع عن الجبهة الشعبية في الجنوب ردا علي المهاجمات من الجانب الأوغندي, ثم تأتي أيضا المشكلات الأخري المتعلقة بتوزيع أعباء الديون فهناك خلافات علي تقسيم أعبائها فالشمال يري تقسيمها تبعا لمساحة الأرض والسكان, والجنوب يري توزيعها حسب الاستثمارات التي تم إنجازها ويصل حجم القروض حوالي 28 مليار دولار, أيضا مشكلة النيل والتي تصل إلي 18.5 مليارات متر مكعب ما بين الطرفين خاصة أن الجنوب يتمتع بأمطار غزيرة ووجود آبار جوفية يعتمد عليها في الزراعة.
أشار القيادي بحزب المؤتمر الشعبي عبدالله دينق نبال إلي أن جنوب السودان يكون من عشرات القبائل مما يحتاج إلي حسن إدارة التعدد الذي اعتبره مصدر للزعزعة إذا لم يحسن إدارته.
وقال دينق إن الدولة الجديدة في الجنوب تحتاج أن تنظر إلي مصالحها الحقيقية, وليس من مصلحتها خلق عداء في علاقاتها الخارجية, بجانب أنها في حاجة إلي دولة الشمال باعتبار أن العلاقة مع الشمال لا يمكن الاستغناء عنها, مبينا أن الدولة الجديدة تحتاج الحكم الراشد وتحقيق مصالحها ومصالح شعبها.
قال الدكتور أحمد يوسف أحمد الباحث في الشأن السوداني إنه يجب ألا ننسي أن ثمة مشاكل لاتزال عالقة بين دولتي السودان, وعلي رغم حرص الشمال علي أن يكون أول المعترفين بدولة الجنوب, وحرص رئيسه علي حضور احتفالات استقلال الجنوب وإلقاء كلمة فيها تؤكد التعاون بين الدولتين, وتعهد الرئيس الجنوبي أيضا في خطابه بهذه المناسبة بحل تلك المشكلات سلميا, وساعتها سيحدث مزيد من استنزاف الشمال والجنوب معا في صراعات مسلحة دامت بينهما علي مدار ما يزيد علي نصف قرن.
وأضاف أن هناك قضية مياه النيل التي تهم مصر وكلا من شمال السودان وجنوبه, وستكون دولة الجنوب هي الأقدر علي التحكم ولو النسبي في تدفق المياه إلي شمال السودان ومصر, وعلي رغم التصريحات المطمئنة التي أدلي بها الرئيس الجنوبي في مناسبات سابقة ومؤداها أن الجنوب لا يمكن أن يحرم مصر من قطرة مياه واحدة فإن موقف دولة جنوب السودان من المسألة المائية مازال غامضا, أو لنقل إنه لم يوضع موضع التطبيق أو يختبر, وليس مؤكدا هل يختار الجنوب أن يكون هناك ترتيب ثلاثي يجمع مصر وكلا من شمال السودان وجنوبه يعالج مشكلة قسمة المياه؟ وهل يستجيب بسهولة للمشروعات المائية التي تتحمس لها مصر لزيادة إيرادات نهر النيل وبالتالي التخفيف من صعوبات القسمة الجديدة, أم أنه سيفضل أن ينضم إلي الاتفاقية الإطارية التي تضم باقي دول حوض النيل وتتحفظ عليها كل من مصر وشمال السودان, فتكون المسألة مدعاة لتوتر في العلاقات داخل هذا المثلث؟
وأكد د. هاني رسلان رئيس برنامج دراسات السودان وحوض النيل بمركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية أن حكومة جنوب السودان قد لا تأخذ موقفا في الوقت الحاي من اتفاقية عنتيبي بسبب انشغالها ببناء الدولة الوليدة, لكن مستقبلا يمكن أن تنضم إليها, موضحا أن جنوب السودان يشهد هطول مطر غزير ويعتمد في الزراعة علي المطر وليس الري وبالتالي ليست بحاجة إلي المياه.
وأضاف أن سلفاكير رئيس جنوب السودان أكد بشكل متكرر أن الجنوب سيأخذ حصته من مياه النيل من الحصة السودانية وفقا لاتفاقية 1959 التي حددت حصة السودان بـ18 مليار متر مكعب وبالتالي لا توجد مشكلة لمصر في هذا الشأن, واعتبر رسلان انقسام السودان إلي شمال وجنوب ينبئ بحالة عدم استقرار مزمن خاصة أن جنوب السودان يعاني من مشاكل أمنية بسبب وجود تمرد كما أن الخرطوم تعاني من عدم استقرار بسبب قضية دارفور التي لم يتم تسويتها بعد والاشتباكات التي تشهدها ولاية جنوب كردفان التابعة للخرطوم بينما ولاءها السياسي للجنوب فضلا عن الخلاف بين شمال وجنوب السودان حول تبعية منطقة إبيي.
وأضاف أن حالة عدم الاستقرار الأمني في السودان يخلق تهديدا غير مباشر للأمن القومي المصري مشيرا إلي أن استقلال جنوب السودان من شأنه إعادة التوازنات في منطقة القرن الأفريقي وحوض النيل بشكل لن يكون في البداية لصالح مصر وسيؤثر علي أمن البحر الأمن وأمن الحدود الجنوبية لمصر وعن جود مصر لاحتواء تداعيات الانفصال قال رسلان إن مصر استطاعت أن تحافظ علي العلاقات مع جنوب السودان لكن جهودها ضعيفة وغير مؤثرة خاصة أن هناك دورا أمريكيا ميهمنا ووجود إسرائيل فاعل ودور إثيوبي يتعاظم مع الوقت في جنوب السودان.
الوطن العربي يهدد بالانقسامات
وتؤكد د. هدي عوض أستاذة العلوم السياسية بجامعة مصر الدولية علي أهمية قرار الانفصال الذي جاء بعد خصومات ونزاعات وصراعات طويلة, فالتعددية القبلية التي يتصف بها أهل الجنوب جعلت من الصعوبة الدمج والتجانس بين مواطن المشال والجنوب الذي استطاع أن يتخذ قرارا بالاستقلال وأن يتحدي كافة العقبات لإقامة دولة مستقلة لها نظام سياسي خاص ويتناسب مع طبيعة أهلها واختلاف ثقافاتهم وجنسيتهم وأديانهم.
وأضافت د. هدي أن الجنوبيين سوف يواجهون العديد من التحديات والمشاكل, فالروابط التاريخية والثقافية التي تربط الطرفين باعتبارها دولة واحدة تجعل من التقسيم صعوبات خاصة في منطقة الحدود التي تتمتع بثروة بترولية هائلة قد تكون عاملا مشجعا علي نشوب حروب في حالة حصول الجنوب علي حصة أكبر, فالجنوب يتمتع بموارد عديدة ولكن تحتاج إلي منفذ خارجي يساعده.
وأشارت د. هدي عوض بأن فكرة الانقسامات أصبحت تهدد كيان الوطن العربي بأكمله وليس القارة الأفريقية فليبيا مهددة تحت وطأة هذا الانقسام, كذلك اليمن والعراق مرشح إلي حد كبير لهذا الانقسام والتفتت فثقافة الوحدة القومية العربية بدأت تضعف كيانها وقوتها.