الطوابير الطويلة التي امتدت لمسافات طويلة خارج مراكز الاقتراع في العاصمة المصرية في صباح يوم الاثنين الماضي كانت حلما من أحلام الثوريين الديموقراطيين منذ عام, ولكنها مثلها مثل كل شيء آخر -تقريبا- تنبئوا به بعد الإطاحة بمبارك, تبدو سرابا.
باستثناء اندلاع أحداث عنف, يمكن للانتخابات البرلمانية المتعددة المراحل والتي ستستمر لغاية يناير المقبل أن تصبح أكثر الانتخابات البرلمانية التي جرت في مصر منذ ستين عاما, حرية وتنافسية. ولكن تلك الانتخابات يمكن أن تأخذ البلد بعيدا عن الديموقراطية الليبرالية, لا نحوها.
ويمكن لإجراءات التصويت المعقدة, وسوء تنظيم معظم القوي العلمانية, أن يتيحا الفرصة لهيمنة الإسلاميين, والمؤيدين السابقين لمبارك علي البرلمان الجديد خصوصا بعد الظهور القوي لهما في الانتخابات.
وأثناء وقوفه في طابور إحدي لجان الانتخابات وسط القاهرة, وصف محمد سكر أحد أنصار مبارك السابقين ##الإخوان المسلمين## بأنهم:##منظمون, ولهم اتصالات جيدة بالعسكر##, وقال لي##سكر## إنه سيصوت لمصلحة حزب ##العدالة والتنمية##.
ليس واضحا ما الذي سيجنيه المنتصرون من الانتخابات. فالمجلس الأعلي للقوات المسلحة, يسعي لأن يكون له سلطة علي عملية كتابة الدستور وعلي النظام السياسي, وربما لن يسمح حتي الآن للبرلمان الذي سيتكون عقب الانتخابات بتشكيل حكومة, أو ممارسة أي وظيفة من وظائفه العديدة.
منذ أيام عاد الثوار المحبطون لميدان ##التحرير##, متعهدين بالبقاء إلي أن يتخلي العسكر عن الحكم لسلطة مدنية. وقد أدي الاحتجاج والاعتصام إلي مصادمات مع قوات الأمن المركزي والجيش أسفرت عن مصرع 40 من أولئك المحتجين. ولكن الميدان الذي غسلته الأمطار الغزيرة التي انهمرت علي القاهرة ليلة الأحد الماضي بدا موحلا ومهجورا أمس بعد أن تركه الثوار المتنازعون للذهاب للتصويت في الانتخابات التي يشعرون بأن إجراءها في هذا الوقت لن يكون في مصلحتهم.
قال لي ##شادي الغزالي حرب##أحد نشطاء ## التحرير##: ##إننا نشعر بأن الثورة قد سرقت منا##. الشاهد الآن أن##حرب## وأمثاله من العلمانيين الليبراليين الشبان باتوا يشعرون الآن بأن قضيتهم قد انتهي بها الأمر إلي مجرد رهان يائس لحد ما, وأن شن موجة##ثانية## من الثورة هو الذي يمكن أن يمنع استيلاء الإسلاميين الوشيك علي البلاد,واستعادة النظام الأوتوقراطي القديم علي أيدي العسكر, أو مزيج مدمر من الاثنين معا.
مع ذلك, يمكن القول إن قضيتهم ما زالت تتمتع بدعم شعبي ضخم. ففي يوم الجمعة قبل الماضي علي سبيل المثال, احتشد مئات الآلاف منهم في ميدان التحرير وهتفوا لبطلهم##محمد البرادعي## المدير السابق للوكالة الدولية للطاقة النووية, الذين يأملون أن يقبل بتشكيل حكومة إنقاذ وطني تحل محل المجلس العسكري.
وقد نجح احتجاجهم في انتزاع تنازل مهم من العسكر وهو الوعد بتحويل السلطة إلي رئيس مدني بحلول يونية المقبل وليس عام أو أكثر بعد ذلك التاريخ.
ولكن الليبراليين يدركون أنهم أقلية. فبعد شهور من الفوضي السياسية والتدهور الاقتصادي بات العديد من المصريين يتشوقون للاستقرار. فالجريمة باتت منتشرة في القاهرة لدرجة بات معها الكثير من الناس يخشون السير في الشوارع, والفنادق الكبري المطلة علي النيل خالية من السياح.
لم يقل لي واحد ممن تحدثت معهم أن العسكريين قد أداروا البلاد بشكل جيد خلال الفترة الماضية, لكن كلهم تقريبا أجمعوا علي أنهم يريدون بقاءهم في السلطة علي الأقل لحين انتخاب رئيس للبلاد بدلا من التخلي عن تلك السلطة فورا كما يطالب ثوار ##التحرير##.
وينطبق هذا علي الأحياء الراقية أيضا مثل الزمالك علي سبيل المثال, حيث امتد طابور من الناخبين معظمهم من النساء لمسافة طويلة. فجميع من تحدثت إليهم قالوا لي إنهم يؤيدون التحالف الليبرالي الرئيسي## الكتلة المصرية##. قالت لي امرأة في منتصف العمر تدعي رويدا عيد :##لقد ضقنا ذرعا بالتحرير… كفانا تظاهرات… نريد أن نعيش ونكسب رزقنا. ونحتاج من أجل ذلك لقوة قادرة علي استعادة النظام##.
ويعترف##الغزالي حرب##, متحسرا, بأن الموجة الثانية من الثورة لم تؤد حتي الآن سوي لتعزيز وضع العسكريين و##الإخوان المسلمين##, الذين رفضوا المشاركة في التظاهرات الجديدة. ويقول## الموجودون في ميدان التحرير لم يحصلوا علي شيء حتي الآن من الموجة الجديدة من الثورة## ويضيف:##وهذا يمنحنا سببا للبقاء##.
والنظرية التي يتبناها المنظمون لتلك الاحتجاجات, هي أن الثورات يصنعها الأقلية النشطة, وليس الكتل الكبيرة, التي يمكن أن تخرج للتصويت لمصلحة الإسلاميين أو تبقي في بيوتها. وقال لي ##حرب## البالغ من العمر 32 عاما:##الميدان يمثل الكتلة المركزية القادرة علي تحريك البلد بأسره… هؤلاء هم الـ12 مليون القادرون علي تحريك الـ80 مليونا##.
كان هذا صحيحا في يناير الماضي. أما الآن ـ ونظرا لأسباب منها المنفذ الذي وفرته الانتخابات ـ فإن الاحتمالات تبدو ضد الثوار. وأفضل فرصهم قد لا تكون الإطاحة بالمجلس العسكري,وإنما الانتخابات الرئاسية الموعودة. فإذا ما تمكن مرشح للرئاسة متعاطف مع أجندة الليبراليين من توليد الزخم الذي يمكنه من الكسب ـ ومنع العسكريين من تنفيذ أجندتهم الخاصة ـ فإن مصر يمكن أن تنتقل خطوة خطوة نحو ديموقراطية متكاملة الأركان.
في مراكز التصويت التي شاهدتها في القاهرة خلال الأسبوع الماضي, بدا من المؤكد أن المصريين كانوا مشتاقين لاعتناق هذا النظام (الديموقراطي). أما إجابة السؤال المتعلق بما إذا كانوا سيتمتعون به تماما أم لا فتتوقف علي الطريقة التي ستنتهي بها المنافسة المعقدة بين الإسلاميين, والديموقراطيين العلمانيين في الشهور القادمة – سواء في صناديق الانتخابات أو في ميدان ##التحرير##.
واشنطن بوست