الأنبا بيسنتي أسقف حلوان والمعصرة ومدينة 15 مايو يحتفل بعد أيام معددوة باليوبيل الفضي لسيامته أسقفا.. وربع قرن في حياة أسقف تعني ميطانيات وصلوات وابتهالات ومدائح ترفعه إلي روحانيات عالية, ولكنها مع الأنبا بيسنتي الأسقف الناسك كانت أيضا خبرات وعلاقات وحوارات وقراءات ولقاءات, فهو تتلمذ لسنوات قبل الأسقفية بسكرتارية قداسة البابا, وفي ظل ظروف صعبة عاشتها الكنيسة أثناء حكم السادات, ولازم البابا شنودة أيام اعتكافه بدير الأنبا بيشوي فعاش كثيرا من المواقف السياسية واكتسب خبرات وحنكة مازال يستخرج من مخزونها.. وعندما قامت ثورة 25 يناير كان ذا رؤية واضحة.. ذهبنا إليه في مقره بدير الأنبا برسوم العريان.. وكان هذا الحوار.
* لنبدأ من 25 يناير .. كيف رأت الكنيسة ثورة الشباب؟..
* * الكنيسة تشعر بالشباب.. والكنيسة وهي تحتضن أبناءها في الاجتماعات والافتقادات وسر الاعتراف تلمس معاناة الشباب الذين أنهوا دراساتهم وتخرجوا من الجامعات وظلوا لسنوات لا يجدون عملا, ومن يعمل منهم فمرتباتهم لا تفي بمتطلبات حياتهم.. والأكثر أنهم عاشوا يعانون التمييز ويسمعون تصريحات ووعودا عن الوحدة الوطنية وحب الآخر دون تطبيق فازداد الكبت والغليان الداخلي, وفي ميدان التحرير كان المخرج والأمل.. والإنجيل يقول: الرب يحكم للمظلومين.. نشكر الله أنها كانت ثورة بيضاء بعيدة عن العنف.. ونحن نتحرك بما نري وما يرشدنا له الله, وهدفنا سعادة المواطن المصري والمحافظة علي الوطن والنهوض به, وعندما سارت الثورة في هذا الهدف كان رأي الكنيسة واضحا في البيان الذي صدر عنها, وحيا فيه قداسة البابا شنودة الثالث شباب مصر الذي قاد مصر في ثورة قوية بيضاء, وحيا جيش مصر والمجلس الأعلي للقوات المسلحة فيما أصدره من بيانات من أجل الحفاظ علي مصر, وأشار قداسته في البيان إلي إيمان الكنيسة بأن تكون مصر دولة ديموقراطية مدنية تختار أعضاء برلمانها بانتخابات حرة نزيهة تتمثل فيها جميع فئات الشعب.. لكن الأمور لم تستمر كما بدأت.. البلطجية والخارجون علي القانون يثيرون الفوضي والقلق, والمواطنون يفتقدون الأمن والسلام.. والمطالب الفئوية تزداد.. ونرجون أن يعود الهدوء إلي الشارع, وعجلة العمل في الدوران, وإلا فالبلد ذاهبة إلي منحني خطير خاصة في ظل وجود خطاب ديني بات يتحدث عن الدولة الدينية.
* نيافتك ذهبت بنا إلي بيت القصيد .. كيف تري الكنيسة القبطية الموقف الآن؟
* * قداسة البابا يدرس هذه الأمور في هدوء, وبعدها سيكون هناك توجه معين نسلك جميعا فيه.. ومن المعروف أننا دائما نتمسك بحقنا الوطني.. فمثلا في حادث كنيسة صول مركز أطفيح محافظة حلوان يقول بيان إعادة بناء الكنيسة إن العلماء اجتمعوا مع رجال القوات المسلحة واتفقوا علي إعادة بناء الكنيسة.. فمن الذي يحكم؟ علماء الدين, أم الدولة ممثلة في القوات المسلحة ومجلس الوزراء؟!.. إن صدور هذا البيان بهذه الصياغة يعني أننا نعيش دولة دينية, وثورة الشباب طالبت بدولة مدنية.. ومصر كانت دائما دولة مدنية.. فيها المسلم المتدين, وفيها المسيحي المتدين, فيها المسلم والمسيحي يعيشان معا ويحكم الجميع دستور واحد وقانون واحد.. والحديث عن كنيسة صول يذكرنا بما لا يقل خطورة وهو محاكمة الجناة.. وأنا في جميع مداخلاتي ببرامج التليفزيون وفي جميع أحاديثي الإعلامية أقول لابد من محاكمة الذين هدموا الكنيسة وحرقوها, وهذا مطلب لن نتخلي عنه, لأن ما حدث جريمة, وإذ كان فضيلة الإمام الأكبر شيخ الأزهر قال لم يحدث في تاريخ الإسلام أن هدمت أو حرقت كنيسة بأيدي المسلمين, فهذا يكشف لنا حجم الجرم!!.
* ما الحل؟..
* * الحل في الأحزاب التي تتكون حاليا.. وعلي الأقباط أن يندمجوا ويسعوا إلي الانخراط في أحزاب مدنية وليست علي مرجعية دينية, ففي هذا المناخ الحزبي القائم علي تحالف المصريين أقباطا ومسلمين يمكن أن تطرح مشاكل الأقباط وحقوقهم.. مشكلة مثل حادث صول حرقت الكنيسة وهدمت أمام عيون الناس, وتوجد أفلام تصور الجناة ومع هذا لم يبدأ في محاكمتهم!! وفي قنا جماعة من السلفيين قطعوا أذن قبطي وحرقوا سيارته.. أشياء لم نر أو نسمع عنها من قبل, ولابد أن تطرح وتوضع لها حلول جذرية, ولن يكون هذا إلا من خلال أحزاب ديموقراطية وطنية مدنية.
* ما رأي نيافتكم في تكوين أحزاب ذات مرجعية دينية مسيحية؟
* * كلنا ضد تكوين أحزاب ذات مرجعية دينية مسيحية أو إسلامية, وتأسيس حزب علي أساس ديني أمر مرفوض لأنه سيحدث مشاكل للجميع, وفي مناخ من الترويع قيل إن الإخوان المسلمين سيكونون حزبا. وهذا يخيف الأقباط, فقلنا نحن لا نخشي هذا لأننا كلنا مصريون, نحن نريد أحزابا مدنية تعطي كل مواطن حقه بالتساوي مع أي مواطن آخر مادام هو صاحب حق, سواء كان مسلما أو كان مسيحيا.. ونعود إلي المبدأ الذي رفع قديما من سنة 1919 الدين لله والوطن للجميع وما يطمئنني أن ثورة يناير أعادت لنا هذا المناخ, وأري أن الأقباط يسعون بقوة لتشكيل أحزاب وطنية مدنية.. منذ أيام اتصل بي شاب طبيب من مصر الجديدة -كان والده زميلي في مدارس الأحد- وأخبرني أن يؤسس مع مجموعة -حوالي 15 ألف مسلم ومسيحي- حزبا مدنيا, وعندي في حلوان نفس الحكاية, أستاذ تغذية يؤسس حزبا يضم أقباطا ومسلمين, وفي رأيي الأفضل من تأسيس حزبين أو ثلاثة يؤسس حزب واحد قوي يضم خمسين أو مائة عضو ثم ينمو ويكبر ويضم ملايين.. وهذا هو الدور الضروري والمهم للأقباط في المرحلة القادمة.
* وماذا عن المادة الثانية في الدستور؟
* * المادة الثانية موجودة من قبل كده, وليس لدينا مشكلة في وجودها أو عدم وجودها, كل ما في الأمر أننا مع قداسة البابا فيما قاله أن تبقي المادة الثانية كما هي ويضاف إليها غير المسلمين يطبق عليهم شرائعهم فيما يخص أحوالهم الشخصية.. وأنا أري أن يضاف إلي هذا جملة أخري ألا يميز مواطن علي مواطن بسبب دينه فكلنا متدينون مسيحيين ومسلمين وعلي هذا لا يجب إلزام مواطن بشريعة هو لا يؤمن بها مهما قيل إن هذه الشريعة هي الكاملة, فكل دين يعتقد أن شريعته هي الكاملة, وهناك آية بالقرآن تقول في معناها ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة.. أي سمح الله بالتعددية, وإن كانت هناك تعددية فلماذا يلزم الناس بشريعة معينة؟.
* هل تتوقع نيافتك إجراء هذا التعديل؟
* * أنا أتوقع كل خير, لأنني أتفاءل بمرحلة جديدة نتمتع فيها بحرية أكثر من قبل, حرية في التعبير والمطالبة بالإقناع وقبول الآخر.. وإذا وضعت الإضافة أو لم توضع فالمضار هنا ليس الأقباط, المضار هي الدولة, فعندما صدر حكم المحكمة الإدارية العليا بإلزام الكنيسة بإعطاء تصاريح بالزواج للمطلقين لم تطبق الكنيسة إلا تعاليم الإنجيل التي لا تسمح بزواج المطلقين.. وعلي هذا فإن وضع هذه الإضافة بالدستور سيرفع عن الدولة الحرج, فالقاضي لن يلزم الكنيسة بغير شريعتها, والكنيسة لن تقول لا مادام أحد لن يلزمها بغير شريعتها.
* مع هذا التفاؤل .. هل تتوقع نيافتك ما هو أكثر؟
* * أتوقع حرية أكثر في بناء الكنائس, وهذا ليس حلما, فالمجلس الأعلي للقوات المسلحة أصدر مرسوما تفتح الكنائس المغلقة.. ونحن لا نريد أن يكون هذا أمرا مؤقتا مصاحبا للثورة, نريد أن يكون بناء الكنائس أمرا سهلا كبناء المساجد, ولا يشعر المواطن القبطي أن بناء كنيسة أمر صعب وشاق إذا بدأه لا يعرف متي ينتهي..
ونحن لا ننكر أننا قمنا ببناء كنائس, ولكن كانت بشق الأنفس أحيانا, وبعلاقات المحبة مع المحافظ أحيانا أخري.. وأشكر الله علي النعمة التي أعطاها لنا.. ففي امتداد حلوان مدينة 15 مايو وعندما جئت للإيبارشية لم يكن بها كنيسة, والآن بها كنيستان ونسعي لكنيسة ثالثة, والحق يقال, كل أراضي الكنائس كانت هدية من الدولة أخذناها مجانا.. وفي جنوب حلوان منطقة أخري اسمها المشروع الأمريكي لم يكن بها كنيسة, بنيت بها كنيسة منذ 15 سنة, والدولة أعطتنا مؤخرا قطعتي أرض, جار إجراء تراخيص بناء كنيسة علي إحداهما, والثانية قسمناها مع إخوتنا الإنجيليين.. وفي منطقة غرب حلوان اشترينا قطعة أرض وبنينا عليها كنيسة باسم مارمينا والبابا كيرلس.. وهكذا نعمل بهدوء ومحبة فهكذا تعلمت من قداسة البابا شنودة الثالث خلال سنوات عملي بالقرب منه تلميذا بسكرتارية قداسته.. ولهذا فأنا أري أن حرية بناء الكنائس لن تكون بالقانون الموحد لبناء دور العبادة, ولكن بمنحنا حرية البناء مثلما يحدث عند بناء المساجد, وأخوتنا المسلمون يقولون: إنما يبني مساجد الله القوم المؤمنون ونحن مواطنون مؤمنون نبني مساجد نسجد فيها لخالقنا -وهي كنائسنا- فعلي أخي المسلم أن يقول لي: مبروك الكنيسة.. وهكذا تمضي الأمور في هدوء لأن الدولة مش ناقصة وجع دماغ, ولا الكنيسة أيضا ويكفينا ما نواجهه من مشاكل تأتي إلينا من حيث لا نعلم.
* مثل ماذا؟
* * كان عندنا بنت شابة غير متزوجة بتشتغل في مكتبة يمتلكها أخ مسلم, ولما شافته عاوز يشجعها علي الانحراف تركته واشتغلت في صيدلية بمنطقة المشروع الأمريكي, فترصد لها صاحب المكتبة ليلة الاستفتاء علي التعديلات الدستورية وطعنها بسكين طعنة نافذة.. البعض قال دي فتنة, قلت لا ده مواطن مسلم ومواطنة مسيحية وحصل إشكال ليه راح نخليها فتنة طائفية؟! مافيش مسلمين طلعوا وقفوا للمسيحيين بل بالعكس المسلمين واقفين جنب المسيحيين, وأهل الشاب لما جابوا محامي كبير مسلم رفض أن يترافع عنه وقال: لن أبرئ مجرما.. واتعملت كل الإجراءات من القوات المسلحة والشرطة وشيعت الجنازة وصليت علي جثمان البنت بالكنيسة في حضور العميد مأمور قسم حلوان, وقلت أنا باعتبرها شهيدة مسيحية لأنها رفضت أن تقع في الخطية وتمسكت بتعاليم السيد المسيح.
* حديث نيافتكم يعطي راحة لمن يسمعه.. فماذا تقول لملايين المصريين المسيحيين المنزعجين لما يدور الآن؟
* * بصراحة, لقد عشت 70 سنة لم أر ما نمر به, ولكن طالما ربنا سامح بهذا, فهو قادر أن يحوله للخير.. وهذه من نعم ربنا الكبيرة أن يسمح لنا بهذا الاضطراب لكي نرفع قلوبنا ونصلي إليه.. الكل يقول يارب لأنه ليس لنا سوي الرب.. ولكي يقبل الرب طلباتنا لابد من التوبة, ومن تدابير الرب أننا نعيش أيام الصوم الكبير -صوم التوبة- وكأنها دعوة من الرب لنهضة روحية كبيرة احسبوه كل فرح يا إخوتي عندما تقعون في تجارب متنوعة.