فهم الأسباب البيولوجية الكامنة وراء الأمراض العقلية سيشكل تغييرا جذريا في نظرتنا إلي العقل. وهو لن يطلعنا فحسب علي أسباب بعض أسوأ الأمراض التي تصيب البشر, بل قد يعلمنا المزيد عن هويتنا وكيفية عملنا ككائنات حية, لأن هذه الأمراض تتعلق بالتفكير والمشاعر. لقد كنت ساذجا عندما ظننت أننا علي شفير تغيير جذري كهذا عام 1983, حينما كان جيمس جوسيلا ونانسي ويكسلر يحاولان تحديد الجينة التي تسبب داء هانتنجتون. توقعت أنه في غضون 10 سنوات, سنكون قد اكتشفنا الجينات الأساسية التي تؤدي إلي الإصابة بانفصام الشخصية والاكتئاب وداء التوحد. ومنذ ذلك الحين, سادت الحماسة بشأن الجينات والأمراض العقلية وكانت هناك بعض البدايات العاثرة, غير أن الأمر المفاجئ هو أنه لم يتم إحراز الكثير من التقدم.
لكن في السنوات الأخيرة, منحتنا بعض التطورات في علم الوراثة أسبابا جديدة للتفاؤل. الآن وقد أصبح بإمكاننا دراسة الجينوم البشري بأكمله, تتضح لنا أمور لم يكن بوسعنا رؤيتها عند النظر إلي جينات منفردة. ونتيجة لذلك, ثمة أسباب تدعو للاعتقاد بأن السنوات الـ10 إلي الـ20 المقبلة ستكون مثمرة أكثر مما كان عليه العقدان الماضيان.
أحد التطورات المهمة كان اكتشاف وجود تنوع في الجينوم أكبر مما كان متوقعا, وأن هذا التنوع يتخذ شكل تغيير في عدد النسخ, حيث تصنع نسخ أو تحذف أجزاء من كروموسوم ما, يحتوي عادة علي عدة أو عشرات الجينات, مما يؤدي إلي تعزيز أو كبت عمل جينات معينة. خير مثال علي هذا التغيير في عدد النسخ هو النسخة الإضافية من الكروموسوم 21 التي تتسبب بمتلازمة داون. وقد اكتشف حديثا أن هذا النوع من التغييرات شائع جدا في مجين كل منا.
نوع معين من هذا التغيير في عدد النسخ يدعي تحولات دينوفو قد تكون له علاقة بالتوحد. تحدث تحولات دينوفو في نسيج واحد فقط من الجسم المني أو البويضة وقد تحصل في مرحلة متأخرة نسبيا من الحياة (خلال التناسل), ولا تظهر إلا في الجيل التالي. وهذا يتناسب مع نمط ظهور داء التوحد, وهو داء جيني يظهر أحيانا في عائلات لا تعاني فيها الأمهات داء التوحد وكذلك الآباء والإخوة الآخرون. ويمكن للأم والأب أن ينقلا هذا التحول إلي أحد أولادهما, مع أن التحول لا يظهر في كروموسوماتهما بل فقط في المني أو البويضة. يصبح هذا التحول موجودا في مجين الأولاد ويمكن أن ينتقل من جيل إلي آخر. تحولات دينوفو قد تفسر ازدياد حالات التوحد في السنوات الأخيرة. (حالات الإصابة بداء التوحد ارتفعت جزئيا أيضا بفضل تحسن معايير التشخيص). ويتضح أن احتمال حصول هذا النوع من التحول أكبر لدي الأشخاص الذين ينجبون الأطفال في أواخر الثلاثينيات والأربعينيات من عمرهم, وهي شريحة سكانية تزداد نموا في السنوات الأخيرة. التغييرات في عدد النسخ وتحولات دينوفو النادرة قد تكون أيضا عاملا يزيد من احتمالات الإصابة بانفصام الشخصية.
ويحرز العلماء تقدما أيضا في إيجاد العلامات البيولوجية التي تشير إلي الاكتئاب والقلق والعصاب الوسواسي القهري. هذه العلامات ضرورية لفهم الأسس البنيوية للأمراض العقلية ولتشخيصها بشكل موضوعي ومتابعة تجاوبها مع العلاجات, فضلا عن منع ظهور مرض العصاب لدي الأشخاص الأكثر عرضة للإصابة به.
التقدم العلمي الأكثر إقناعا في الطب النفسي خلال العقد الماضي لم يكن له علاقة كبيرة بعلم الجينوم, بل كان قائما علي الإثباتات العلمية بأن بعض أنواع العلاجات النفسية فعالة. وهذا ليس مستغربا. فأحد الاستنتاجات الأساسية في علم الأحياء الحديث المختص بالتعلم والذاكرة هو أن التعليم والخبرة والتفاعل الاجتماعي عوامل تؤثر في الدماغ. وعندما تتعلم أمرا وتتذكره لفترة طويلة, فالسبب يعود إلي تحفيز الجينات وتوقفها عن العمل في بعض الخلايا الدماغية, مما يؤدي إلي نمو وصلات تشابكية بين الخلايا العصبية في الدماغ. وبما أن العلاجات النفسية فعالة وتؤدي إلي تغييرات مستقرة ومكتسبة في التصرفات, فهي قد تسبب تغييرات حيوية مستقرة في الدماغ. وقد بدأنا الآن نقيس هذه التغييرات بفضل التصوير الدماغي. فإذا خضع شخص يعاني العصاب الوسواسي القهري أو الاكتئاب لعلاج نفسي ـ وإن نجح العلاج في تغيير تصرفاته سيؤدي هذا العلاج إلي زوال العلامات البيولوجية لهذه الأمراض.
كل هذه التطورات قد تؤدي إلي مقاربات جديدة لمعالجة الاكتئاب والاضطرابات الوسواسية القهرية وانفصام الشخصية, وهي أمراض لم يحرز فيها تقدم علاجي بواسطة العقاقير منذ عقود. وفي خضم سعينا هذا, قد نتعلم أيضا شيئا عن هويتنا.
أستاذ الكيمياء الحيوية والفيزياء الحيوية في جامعة كولومبيا, فاز بجائزة نوبل عام 2000 لدراسته الأسس الجزيئية للذاكرة. وهو مؤلف كتاب بعنوان In Search of Memory (بحثا عن الذاكرة).
نيوزويك